عباس كيا رستمي الغريق الذي أهدى العالم بضع فقاعات

ثقافة 2021/09/09
...

 طالب عبد العزيز
 
 تأتي سينما وقصائد عباس كيا رستمي (1940 - 2016) لتقول لنا، بأننا نعيش كـ «غريق.. في اللحظات الأخيرة من حياته، يهدى العالم بضع فقاعات». هكذا، بحسب إحدى قصائده. لكننا، نقول بأنه منحنا جرعات طويلة، لتأكيد ضرورة وجودنا، وأهمية الحياة، حيث نحيا، مع القسوة، التي نتسلمها من يدها كل يوم، ففي عوالمه التي لا يمكن فصل الشعر فيها عن الكاميرا، يكون رستمي واحداً من سلالة مبدعين كبار، منحوا الفن والفلسلفة والشعر ما يجعلنا نثق باهميتها، وقدرتها على إقناعنا بأنَّ الضَّجر وإن كان قادراً على صناعة يئسنا، لكنَّ ممارسة الحياة عبر القصيدة والفيلم ممكنةٌ أيضاً.
في قراءة كتاب عباس كيا رستمي الشعري (ليلٌ مرصّعٌ بروقاً) بترجمة محمد الأمين الكرخي، ورشيد وحتي، الصادر عن دار (كريسطال) تلتئم صورةُ الشاعر عنده بكاميرا المخرج بقوّة، حتى نكاد نستحضر قطعة شعرية في كل لقطة سينمائية له، فهو الذي عُرفَ رساماً وشاعراً ومخرجاً، وتقدمت اعماله السينمائية، بوصفها واحدةً من مفاخر السينما العالمية، واذا انفردت الكاميرا عنده بالتقاط الشجرة، دون الغابة، والفرد، دون الجماعة، وقطعة الثلج على الرصيف، دون العاصفة، فالشعر عنده مقترنٌ بالعزلة ايضا، والقصيدة لديه بلا صوت. فهو يقول: «يتعين النظر الى الشعر تماما كما ينظر الى الصورة الفوتوغرافية».. أمّا ما صنعه في السينما فيكفيه اعتراف المخرج الفرنسي الكبير جان لوك غوادار بقوله بعد مشاهدته لفيلمه (أين بيت الصديق): «بأنَّ السينما تبدأ بدي دبليو غريفيت، وتنتهي بعباس كيا رستمي».
وفي - تأمل شخصيٍّ جداً- أجد أنَّ الناس الذين يفعل الشِّعرُ بنفوسهم كما أريد له قلةٌ قليلة جداً، أمّا أنْ يكون الشِّعرُ مقرونا بالتأمل والدين والتصوف فهذا ما فعله الشعرُ بشعوب بلاد فارس. وما كنتُ مقتفياً أثر ذلك في الكتب والسينما والرسم ومخرجات الثقافة بعامة، أبداً، إنما أتحدثُ عن ما شاهدته، وسمعته في البلاد تلك، زائراً وسائحاً، حيث تندغم الطبيعة بسلوك الناس، الذين نلتقيهم في البيوت، والاسواق بما نقرؤه ونشاهدُه من صور واشرطة فيلمية وكتب، ولعل أبلغ ما يمكن انجازه في الكتابة والاعمال الفنية الأخرى، هو التماهي بين الحياتي والمُتخيل، حتى لأقول بأنَّ العابر المتأنّي يتلمسُ أثر الأخيلة التي صنعها الشِّيرازيان (حافظ وسعدي) وعمر الخيام، وفروغ فرخزاد، وسبهري، وشاملو، ورستمي في تفاصيل الحياة العامة.
كنتُ تطلعتُ طويلاً في الوجوه هناك، وسمعت رنةَ الحياة وهي تهمس شعراً وتأملاً. أليس هو الذي يقول: «في قعر البئر رجل وحيد، رجل وحيد، على حافة البئر، وبينهما دلو». وأنني لأعتقدُ- غير متأكدٍ- بأنَّ الفارسية لغة إشارية، أكثر مما هي لغة إسهاب وشروح. فقد وجدتُ الانسان هناك قليل الكلام، هو يومئُ بعينه، أكثر مما يتكلم، وأتضرع أنْ يكون ذلك غيرَ متأتٍ من عُسر الحياة، فقد وجدته نتاجَ تفكّر، وكفايةَ معنى. نعم، طهران مدينة صاخبة، لكنها بالسيارات والدراجات النارية، أما إنسانها فمصغٍ وهادئ، على عكس القاهرة وبغداد والبصرة، حيث تكون الاسواق صاخبة بالباعة، والانسان فيها لا يفعل إلا تفادي الصخب ذاك.
توقفت ذات يوم عند دكانة صغيرة، لخطّاط في منتجع (دربند) أسفل سلسلة جبال البزر، يخطُّ الشعرَ لمن يريده، والزبائن حوله، كان صامتاً، زامّاً شفتيه، يتطلعُ في أعينهم حسب، فيفهم الغايات، فيما يده لا تنفكّ، ترسم وتحبّر
 الحروفَ.