عزاء الحسين (ع) وقفة في الموروث الديني الشعبي

فلكلور 2021/09/09
...

  علي أبو الطحين
 
يحتضن التاريخ الاجتماعي للمدن والأماكن المقدسة في العراق مزيجا غنيا من التراث الديني الاسلامي والموروث الشعبي المحلي، يتمثل في العديد من الطقوس والشعائر التي تنظم في المناسبات الدينية والاجتماعية. ومدينة الكاظمية التي ولدت وترعرت فيها، هي أحدى هذه المدن العريقة في تراثها وموروثها الديني الشعبي ونسيجها الأسري والاجتماعي. 
من طبيعة مدينة الكاظمية أن تكون مكتظة بالزوار على طول أيام العام، لكن في الأيام العشرة الأولى من محرم يكون لها طابع خاص قل نظيره في أنتشار المواكب الحسينية وأقامة مأتم العزاء في أنحاء متفرقة حول مرقد الأمامين الكاظمين وبعضها ينصب داخل الصحن نفسه.
في أوقات العصر من كل يوم تخرج مواكب العزاء الخاصة بكل محلة أو طرف من أطراف المدينة بمسيرة جنائزية تقرع فيها الطبول، وهي على نوعين (الدمام) ويكون شكله سداسي الاضلاع يربط عن طريق حزام من الجلد حول الكتف والرقبة وتقرع بعصا من الخيزران، والنوع الثاني هو (النقارة) وهي دائرية الشكل، اصغر حجما من الدمام، تشد على بطن القارع برباط يشد حول الظهر، بالعادة تكون هناك نقارة واحدة أو أثنتان تستعمل بالتناوب، وصاحب النقارة يحمل مضربان من الخشب المرن، وهو الذي يقود جوقة الطبول من الدمامات التي يكون عددها ستة أو أكثر، وهناك أيضا الجنجانات الكبيرة التي تقرع مع ضرب الطبول. وعلى وقع ضرب الطبول يسير الموكب بخطوات بطيئة، من حاملي الراية والاعلام في المقدمة الى الخيول والجمال وما تحمل من هوادج وتشابيه لشخصيات متعددة، ومن ثم طابور طويل على كل جانب من الشارع من حاملي الزنجيل الذين يضربون ظهورهم بنسق واحد مع دق الطبول. 
خروج هذه المواكب ومسيرها ليس عشوائياً، بل بنظام متقن ومحدد يخضع له الجميع. يتقدم كل موكب من منطقته، ويبدأ المسير من باب الدروازة وعبر شارع الشريف المرتضى حتى يصل الى الصحن الكاظمي، ومنها الى مقره الرسمي. بعد وصول كل موكب الى مقره الخاص، تقام في أغلبها المآتم في أحاديث توعوية اسلامية عن مصاب الأمام الحسين وأهل بيته، أو في ترديد القصائد والأشعار الدينية واللطم على الصدور يرفقها توزيع الطعام والجرك وما شابه.
وبحكم العلاقة الأسرية كانت مشاركتي في منتصف الستينيات وأنا طفل في السابعة من عمري بموكب الجمهور العريق ، فكان خال أبي المرحوم صاحب مطلك آل شطيط أحد قادة الموكب، فضلا عن آخرين مثل الحاج كرم الشمري والحاج حميد حداد وغيرهم. فتم اختياري لأشارك في تشبيه أحد أولاد مسلم بن عقيل، وكان الحاج صاحب مطلك حريصاً جداً على أن نظهر بملابس وقيافة لائقة ونحن نمثل أطفال آل البيت الكرام، لذلك كان يقوم بنفسه باختيار وتنظيم الملابس المزركشة الجميلة ووضع العمامة بشكل صحيح وحمل السيف وما الى ذلك. في اليوم العاشر من محرم تكون المشاركة لها طابع خاص، حيث نشارك في صباح ذلك اليوم في تمثيل معركة الطف في داخل الصحن الكاظمي، فتنصب لنا سكلة عالية من الخشب، نجتمع عليها نحن الممثلين عن الشخصيات المحاربة في جبهة الأمام الحسين (ع). 
وبعد أن نقوم بأداء الصلاة، ينزل الواحد تلو الآخر لنمتطي الحصان ونحارب بالسيف الأعداء من جيش بني أمية الذين يحيطون بنا من كل جانب، وسط الصراخ المدوي وبكاء وعويل الجماهير التي تغص بها آروقة المشهد الكاظمي.
حين أصبحت في الصف الأول المتوسط، دعيت أبناء عمومتي من هم مقاربون لعمري، لاقامة موكب عزاء حسيني خاص بأسرتنا في مرآب بيتنا في الكاظمية. وضعت صندوقا للتبرعات في صالة البيت، حيث تقيم جدتي التعزية الحسينية (القراية) في الأيام العشرة الأولى من محرم، فضلا عن الطرق على أبواب البيوت في منطقتنا طالباً التبرع لاقامة عزاء للأمام الحسين (ع). وفي غضون أيام قليلة جمعنا مبالغ كافية لشراء الدمامات والنقارة والأبواق والجنجانات وجميع متطلبات أقامة موكب للعزاء الحسيني، تقليداً لما كنا نراه في المواكب الرجالية الكبيرة. بل وأستطعنا دعوة أحد قراء المأتم الحسينية بالقدوم الى موكبنا مساء كل يوم لقراءة قصائد التعزية، وتبرع جارنا المرحوم وجيه الدباغ بكوشر كبير من الجرك لتوزيعه على الحاضرين.