{رسالة من مجهولة} الحب والموت عندما يلتقيان

ثقافة 2021/09/11
...

  هدية حسين
 
تكاد لا تخلو قصة من قصص ستيفان زفايج من العوالم الداخلية لأبطاله، حتى لتحس بأنه محلل نفسي يشرّح كل فعل وسلوك ويخضعه لمبضع إبداعه، ولا عجب، فهو صديق حميم لفرويد ومتأثر به، كما أن فرويد نفسه اثنى على بعض قصصه ووصف قصة فوضى الأحاسيس (بأنها قراءة تحليلية نفسية) وامتدحه (على دقة تصويره للمثلية الجنسية المكبوتة) أما قصته (رسالة من مجهولة) التي سنتناولها في هذه المقالة، فهي تذهب الى أبعد نقطة معتمة في أعماق النفس، بطلتها مراهقة أحبت روائياً حد التوله والمرض القهري ولم تعد ترى في الحياة غيرة على الرغم من مرور السنين، صنعت لها حياة خارج حيوات مجتمعها وأخفت سر علاقتها به حتى عنه، حب مرضي لم تشفه الحياة، بل حتى الموت غير قادر على الشفاء منه. هذه القصة تم تمصيرها في العام 1962 وأصبح العنوان (رسالة من امرأة مجهولة) بطولة فريد الأطرش ولبنى عبد العزيز، ومن إخراج صلاح أبو سيف، كتب السيناريو له كل من فتحي زكي وخيرية خيري، وكتب الحوار سيد بدير، أما الرسائل في الفيلم فكتبها الروائي فتحي غانم، فما الذي تغير بين قصة ستيفان زفايج وفيلم رسالة من امرأة مجهولة؟ في البداية نقول إن أي عمل أدبي حينما يتحول الى السينما لابد من أنه سيفقد الكثير وأيضاً سيضاف له الكثير وقد يبدو احياناً بعيداً عن الأصل بمسافات كبيرة، لأن لغة السينما غير لغة الأدب، وكما قال نجيب محفوظ في أحد حواراته (مهمة الأديب تنتهي عند انتهاء الكتابة... والذي يذهب الى السينما وينتظر أن يرى الكتاب الذي قرأه يخيب ظنه) هذا إضافة الى أن العمل الأدبي هنا لكاتب أجنبي ولابد من مراعات العادات في مجتمعاتنا العربية عندما نحول العمل الى السينما أو الى التلفاز، وعلى هذا الأساس سنتفهم التغيرات الكبيرة التي حصلت في الفيلم العربي، فمثلاً البطل في قصة ستيفان زفايج كاتب وروائي، أما في الفيلم فهو مطرب، النهاية في القصة يموت ابن البطلة وهو من علاقة غير شرعية بالروائي، وتنتهي رسالتها التي كتبتها للرجل الذي تحبه وهي مشرفة على الموت، وهو تحصيل حاصل لما مرت به البطلة من الناحية النفسية، بينما في الفيلم أصبحت النهاية سعيدة باستفاقة المطرب بعد أن قرأ الرسالة فيسرع لإنقاذ الطفل الذي هو ابنه من دون أن يعرف ذلك طيلة ما مر من سنين، وجرت أيضاً تغيرات كبيرة على الرسالة التي كتبها ستيفان زفايج على لسان بطلته بما يناسب الحالة العربية، والحقيقة فإن القصة كلها تبدأ حتى نهايتها على شكل رسالة تكتبها المرأة الى الروائي الذي لا يتذكرها لأنها أخفت عنه حقيقتها، إلا بضعة سطور في النهاية يتركها ستيفان زفايج ليصف الحالة النفسية لبطله بعد أن عرف الحقيقة من دون أن يتذكر صاحبة الرسالة لكثرة ما مر في حياته من نساء، في حين أن الفيلم وهذا من أهم مفاصل أي فيلم يعتمد على الأحداث والانتقالات الصورية، ويمكننا القول إن الفيلم نجح الى حد كبير من دون أية مقارنة بين القصة الأصلية وما حدث عليها من تغيرات في الفيلم
العربي.
نعود الى قصة ستيفان زفايج ونقول إنه على الرغم من أن القصة كلها جاءت على شكل رسالة طويلة فإن كل سطر من سطورها يأخذنا بسلاسة الى تلك النفس المريضة بحب رجل طائش لا يقيم وزناً لأي اعتبار فجعل من النساء ملهاته يتنقل بينهن كما تتنقل الفراشة من زهرة الى أخرى، ولم نلحظ (من جانب المؤلف) أي اهتمام بعالم بطله روائياً، كما لو أن الكتابة التي هي مهنة الرجل مجرد إطار لسرد حياة امرأة أشقاها الحب وهي تعلم أن لا جدوى من ذلك، ثم أخذها الى مصيرها الذي انتهى بانتهاء موت ابنها، إن تعلق هذه المرأة برجل مثل هذا الروائي هو تعلق مرضي كما يقول علماء النفس، والتعلق المرضي هو (اضطراب قهري) وهو (حالة عاطفية تحدث لبعض الناس وهي مرتبطة بالحياة اليومية ونمط تصرفنا بأحد الأشخاص وسلوكياتنا، مثل التعلق بأحد الأصدقاء بشدة أو التعلق في الجانب العاطفي والحب، ويكون التعلق في هذه الحالة علاقة قهرية لا تميزها روابط مشتركة) لقد خرجت مشاعر البطلة في هذه القصة عن كل ما متعارف عليه في التعلق المرضي وأصبحت هي حالة مرضية تستعصي على الحل لأن البطلة نفسها لم تلجأ الى أحد يعينها ويخرجها من دائرة هذا التعلق المدمر برجل ليس على مستوى الحب ولا هو جدير بالعواطف النبيلة (هناك الكثير من البحوث والكتب عن التعلق المرضي لا مجال له في هذه المقالة) لقد حكمت على نفسها بالموت منذ كانت مراهقة تفتحت مشاعرها على رجل رأت من خلاله الكون كله، ربما تكون قصة هذه المرأة أمراً عادياً، لكن ما هو غير عادي ذلك السرد الجميل وذلك الإبحار في ظلمات النفس الأمّارة بكل ما هو غريب، والكشف عن أعمق الأسرار التي نُخبّؤها في مقبرة عميقة داخل أنفسنا حتى من دون أن ندرك باننا نعاني مرضاً قد يستفحل ويأخذنا الى 
المجهول.