لا يسكن الناس جميعهم العالم بالطريقة ذاتها

ثقافة 2021/09/13
...

 كامل عويد العامري
 
جان بول دوبوا 1950، واحد من أبرز الروائيين الفرنسيين منذ ثمانينيات القرن الماضي. كاتب متحفظ نسبيًا ويميل إلى الابتعاد عن المؤسسة الأدبية الباريسية. فازت روايته التي نتحدث عنها بجائزة Goncourt، 2019
 
{1}
تجمع كتابة جان بول دوبوا بين ذوقين. أولاً، الوصف الدقيق للواقع اليومي، المكون من أشياء مثل الطائرات أو محركات السيارات أو الدراجات النارية، والتركيبات الكهربائية، وجزازات العشب، وألعاب الهوكي، وأنظمة تكييف المبنى، ومكابس جهاز أرغن مصنوع يدويًا، وأشياء جاهزة يبدو أنه يعطي لها مكانًا في النص، هذا الهوس بالأشياء اليومية يلتقي بآخر: إنه تذوق ما يمكن أن نسميه شبه عبثية الواقع نفسه ثانيا.
في الواقع، يبحث دوبوا دائمًا عن اللحظات المحددة التي من خلالها، من دون أن تدرك شخصياته، تحديد مصائرها، حتى يمكن القول إن الروائي يتتبع تلك اللحظات العائمة التي يتصور خلالها، للحظة، حياة أخرى غير حياته التي كان من الممكن أن يكون لها وقع آخر، ومن ثم يصر ضمنيًا على العبثية النسبية التي تحكم مصير الكائنات. فيخلق شخصيات معقدة قادرة على التطور بمرور الوقت، لإظهار التعاطف مع الآخرين، وللعثور على لحظات من الفرح والجمال في عالم ليس فيه لليأس مكان.
إن هذا التعدد في تسلسل المواقف، هذا التنوع اللامتناهي في التعبير عن مخاطر الحياة والإخفاقات التي تنجم عنها، هو ما يساعد الراوي البطل بول هانسن على استكشافه.
 تستند الرواية إلى مستويين سرديين متشابكين: في زمن المضارع، الحياة اليومية للسجن الكندي الذي يقضي فيه هانسن عقوبة السجن لمدة عامين؛ والزمن الماضي قصة حياته منذ طفولته وحياة والديه حتى سبب سجنه.
في الواقع، من هذا الإطار الرئيس، يعود بول هانسن باستمرار إلى حياته السابقة. يروي اللقاء بين والده، وهو قس دنماركي من بلدة سكانجي، وهي بلدة صغيرة مهجورة في نهاية شبه جزيرة البر الدنماركي، دُفنت كنيستها التي تعود للقرن الخامس عشر في الرمال، ووالدته، وهي امرأة فرنسية جميلة من تولوز تدير صالة لفنون السينما التجريبية في خضم الفورة التحررية في نهاية الستينيات، وموجة السينما الجديدة. يأتي طلاقهما بعد عرض الفيلم الإباحي لجيرارد داميانو (الحلق العميق) في صالتها (بيت الفن) التي ورثتها عن والديها. ثم يغادر والده إلى أبرشية لوثرية مهجورة في ولاية كيبيك، بين مناجم بلدة ثيدفورد الصغيرة المليئة بترسبات الأسبستوس، وفيها كان القس هانسن يلقي مواعظه من دون اقتناع على أبناء الرعية الإنجليزية الذين شعروا بأنهم محاصرون من قبل جحافل الكاثوليك في كيبيك. يروي ابن هانسن، الذي جاء للانضمام إلى والده، الانحدار البطيء لوالده، الذي استحوذ عليه شغفه بالمقامرة، الذي قاده تدريجيًا إلى تدمير مدخرات أبرشيته ومدخراته بمراهناته على سباقات الخيول، وفي كازينو مونتريال. قبل وفاته اصيب بنوع من السكتة الدماغية في أثناء خطبة وداعية. البطل الذي فقد والدته أيضًا، التي بقيت في فرنسا بعد فترة وجيزة، أصبح مشرفا على، مجمع سكني كبير في ضواحي مونتريال.
 
{2}
إذن يروي الكاتب سيرة بول هانسن الذي يدخل في سجن بوردو لشروعه بجريمة قتل لم يندم على ارتكابها. ومن الزنزانة يسترجع، بطريقة (الفلاش باك) قصة حياته بأكملها وكيف وصل إلى هذا المكان، بعد معاناة طويلة، يحاول إعادة بناء حياته في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مستقرا في كيبيك بعد أن أبح كنديًا بالتجنس، يجد وظيفة بواب/ عامل ماهر ثم مشرفا لمدة 20 عامًا على مبنى يسمى اكسيلسيورExcelsior، وهو مبنى هادئ للمتقاعدين الأثرياء على أمل قضاء أيامهم الأخيرة في سلام. وبمرور الوقت، أصبح مساعدًا للعديد من كبار السن والأرامل الذين يعيشون في محنة عزلتهم المتزايدة، لكنه يعمل كل شيء، حارسا ومسؤول صيانة، بما في ذلك جز العشب ومحافظا على نظافة المسبح (على الرغم من أنه يُمنع تعاقديًا من السباحة فيه)، يربي كلبة يسميها نوك، يحب امرأة تنتمي أصولها إلى قبيلة هندية من شمال كندا تدعى وينونا ماباتشي، من قبيلة ألغونكوين من أم أيرلندية، تكسب عيشها بقيادة طائرة تاكسي من طراز بيفر. كان بول آنذاك سعيدًا حقًا. ولكن، تزداد الأمور تعقيدًا عندما يبدأ جميع السكان في التقدم في السن وتتزايد الوفيات ويبدأ مدير جديد للمبنى بإجباره بقسوة على الابتعاد عن رعاية السكان وأن يولي كل اهتمامه بتقليص النفقات.
 وفي إحدى الأمسيات علم بول بوفاة زوجته في حادث تحطم طائرتها. استغرق البحث عنها أياما بسبب العواصف الثلجية، تعرّف على الجثة التي تشوهت، لكن اقاربها الهنود لم يسمحوا له بحضور مراسيم دفن الجنازة في قريتها. وفي إحدى الأمسيات لكي ينسى أحزانه، استحم مع كلبته في مسبح المبنى. أسرع إليه مدير المبنى ووبخه، وحين كان المدير يهم بالانصراف، أطلق بول العنان لغضبه المتراكم منذ سنوات فضربه وكسر أطرافه ومزق أشلاء لحم من كتفه بأسنانه وكاد يغرقه. كان شروعا بالقتل قاده إلى السجن في يوم 11/4/2008 موعد انتخاب اوباما كما يشير. فيتقاسم زنزانة مع هورتون، الذي يعد من عتاة المجرمين المتهم بالقتل، والذي ينهار بمجرد حلاقة شعره، ولكن بول يصفه بأنه ضحية القدر. 
تتحرك أحداث الرواية بشكل تصاعدي في نطاق فلسفي تقريبا. يصبح هذا المبنى الذي عمل فيه بول كناية عن عالمنا الحالي. ولا يتطلب الأمر الكثير، فقط وصول مدير متلاعب واستبدادي، حتى تختفي حلاوة العيش في مجتمع منسجم مع نفسه، ويحل محله عالم تعسفي وبيروقراطي وشمولي
تقريبًا.
لم يكن بول، الشخصية الرئيسة في الرواية، من هذا العالم. ولن يكون. ومن ثم، فإن الكاتب يؤلف صورة جانبية قلمية رائعة تشيد بالطموح للحرية، مما يزيد من رفض الخضوع لأي شيء غير الأخلاق المبنية على الإنصاف والعدل. ولكن يبقى بول وحيدا ولا يجد عزاءً إلّا في حوار حيوي مع أشباح ماضيه التي يستحضرها قدر استطاعته.
   هذه الرواية تثير الشعور بالارتياح لتحرير الإنسان من طوفان الوهم. على الرغم من الحزن والأسى الذي عانت منه شخصياتها، لكن ما تشيعه هو الكثير من المواقف، والمودة الإنسانيتين التي تتمتع بها.