الــرَّمــزُ

ثقافة 2021/09/13
...

 محمد صابر عبيد
 
يحتلّ الرمز مساحة واسعة في ثقافات الأمم والشعوب والحضارات التي تجعل من اللغة مادّتها الأولى الأبرز في تشكيل شخصيّتها وتبلور هويّتها، ولاسيّما تلك اللغة الخصبة الثريّة بخصائصها النوعيّة وقيمتها الإبداعيّة التي تحتلّ الطاقة الرمزيّة فيها الطبقة الأعلى، وهي ترفد الحيويّة اللغويّة بطاقة خلاقة تخصّب معجمها وذخيرتها وأداءها وانتشارها على المستويات كافّة، إذ لا لغة بلا طاقة رمزيّة تعمل بوصفها آلة لغويّة لها تأثير حاسم في بناء كلّ ثقافة، ويتّصل الرمزيّ باللغة اتصالاً وثيقاً على الرغم من أنّ الرمز يتجاوز اللغة أحياناً إلى الإشارة غير اللغويّة، ولا سيّما تلك الإشارات التي يقوم بها الجسد تعبيراً عن حالات معيّنة حين يؤسّس طبقة ثقافيّة من طبقات التشكيل في الثقافة العامّة لكلّ أمة من الأمم، بشرط أن تكون هذه الإشارات الجسديّة مُتّفَق عليها وشائعة التداول بين الأفراد لتبلور أحد أشكال الرمز الثقافيّة.
لا يمكن للحياة قطعاً أن تستمرّ من دون رموز تشكّل طبقة عليا من طبقات فاعليتها اللغوية والتعبيريّة والدلاليّة، لأنّ الحياة ستتوقّف عند منعطف خطير يعيق حركتها في سياق استكمال شروط التكوين والأداء والتشكيل والفعل، فالرمز هو روح اللغة وقوّتها وفاعليتها وديناميتها ومساحة نشاطها المُنتِج على صعيد إثراء الدوال وتعدّد الدلالات، وهو الجذر السيميائيّ الثريّ للدالّ المفرد أو الجملة أو التعبير أو النصّ حين يشتغل على تمثيل الفكرة وصوغ رؤية جديدة غير مباشرة فيها، فما يتقدّم عادةً هو المعنى المباشر الذي يتسلّمه الجميع من مسافة واحدة ودلالة واحدة واستجابة واحدة وقيمة واحدة، في حين ثمّة معنى ثانٍ يختفي خلف طيّات المعنى المباشر الأوّل ويثوي في بطانته كي يحقّق المعنى المقصود، وعلى الرغم من وجود جسر دلاليّ مُعيّن بين المعنى المباشر الأوّل والمعنى الثاني غير المباشر، إلا أنّ المقصود هو المعنى الثاني المرموز إليه بأساليب وصيغ مختلفة استناداً إلى طبيعة التجربة وخصوصيّتها، والذي لا يمكن الوصول إليه بسهولة كما هي الحال في المعنى الأوّل.
يقسّم «أريك فروم» في كتابه النوعيّ الموسوم «اللغة المنسيّة» الرمز على ثلاثة أقسام رئيسة هي أولاً: الرمز الاصطلاحيّ الذي يشكّل مفهوماً يكاد يتّفق الجميع على تعيينه وتحديده وفهمه مثل: كلمة «منضدة»، فلا يمكن لأحد أن يسمع هذا الدالّ الرمزيّ الاصطلاحيّ من غير أن ينصرف ذهنه التخييليّ التصويريّ إلى شكل ما من أشكال المنضدة، وقد تتعدّد الأشكال المستدعاة إلى هذا الذهن التصويريّ لكنّها في النهاية لا تغادر الشكل العام المتعارف عليه
للدالّ.
وثانياً: الرمز العَرَضيّ الذي يصادف وقوعه في موقف ما ومكان ما وحالة ما، مثل تجربة محزنة أو مفرحة في مدينة ما يتعرّض لها إنسان فتُختزَن في ذخيرته الوجدانيّة والعاطفية، وتتحوّل إلى رمز عرَضيّ تتمّ استعادته في كلّ موقف لاحق مشابه لفئة معيّنة من البشر، وهو لا يعني شيئاً لدى بشر آخرين لا يمثّل لديهم شيئاً يُذكَر.
وثالثاً: الرمز الشامل وهو الرمز الذي تتميّز به حالة معيّنة ذات جغرافيا خاصّة تتغيّر دلالتها ويختلف معناها في جغرافيا أخرى، ويمكن التمثيل بهذا النوع من الرمز حين نقارب وظيفة «الشمس» ومعناها بين البلاد الشماليّة والبلاد الاستوائيّة، إذ لكلّ بلاد رمزية خاصّة للشمس بحسب ساعات ظهورها أو ساعات اختفائها، وبحسب قوّة حرارتها وخفّتها، وبحسب شدّة سطوعها وقلّته، وبحسب طول نهارها أو قِصَرِهِ، وهذه الرمزية هي رمزية شاملة لا تختصّ بفرد معيّن بل بحالة كليّة جمعيّة تقتضي الانتشار والشمول في حدودها الجغرافيّة
القارّة.
يمكن النظر إلى تقسيم أريك فروم هذا بوصفه تقسيماً فلسفياً أكثر منه أدبياً، لأنّ الرمز في حاضنته الأدبيّة ذات الطبيعة البلاغيّة والأسلوبيّة يأخذ مسارات أخرى تتعلّق حصراً بمستوى التعبير الأسلوبيّ، فالتجربة الكتابيّة بأجناس الكتابّة جميعاً هي تجربة لغويّة على صعيد الإجراء الكتابيّ الفعليّ، على النحو الذي يتحوّل فيه فقه اللغة العام إلى فقه لغويّ أدبيّ له قوانينه وأعرافه وتقاليده وضروراته، وربّما تكون العتبة الأبرز في هذا المضمار هي عتبة الرمز التي يستطيع بها الأديبُ إحداثَ الفارق بين اللغة الطبيعيّة واللغة الأدبيّة، بما يعني أنّ اللغة الأدبيّة هي في جوهرها لغة رمزيّة تتجاوز فيها حدود اللغة الطبيعيّة كي تدخل في فضاء البيان والمجاز، وهو فضاء لا يتكوّن ولا يتأسّس ولا يفعل فعله إلا بين يدَي الرمز.
يتباين الرمز شكلاً وصورةً وفعلاً وتأثيراً بحسب طبيعة الجنس الأدبيّ الذي يستخدمه الكاتب، فالرمز الشعريّ غير الرمز القصصيّ أو الروائيّ أو المسرحيّ أو المقاليّ، فلكلّ جنس أدبيّ أو نوع داخل كلّ جنس رمزاً خاصاً يتلاءم مع طبيعته الأجناسيّة أو النوعيّة، فاللغة في الخطاب الشعريّ تتميّز بالكثافة والاختزال والاقتصاد بما يستدعي رؤية رمزيّة إشاريّة شديدة التركيز، تتّسم بالغموض والعمق والتشظّي والاكتناز والتورية والتحريض والتحفيز والإثارة، في حين تذهب اللغة في الخطاب الروائيّ السرديّ نحو الانفتاح والرحابة والاتساع، على النحو الذي تقتضي فعاليّة رمزيّة أقلّ تكثيفاً وغموضاً من الرمزيّة الشعريّة، وهكذا يمكن معاينة الرموز داخل حاضنة الجنس الأدبيّ أو النوع الأدبيّ من داخل الفعاليّة الأدبيّة المخصوصة نفسها، والكشف عن حجم الرمز وطاقته وحضوره وقوّة تأثيره في المتن النصيّ على النحو الذي يكتسب فيه هويّته
المطلوبة.