رؤية تاريخيَّة.. انتخابات 1925 وبداية الحياة النيابيَّة في العراق الحديث

فلكلور 2021/09/15
...

د. حيدر شاكر خميس *
تعد الانتخابات الممارسة الأكثر قبولا لدى شعوب العالم، سواء المتقدمة منها أو التي ما زالت في طريق تحقيق التنمية، بوصفها أحد الأسس المهمة لبناء المجتمعات الديمقراطيَّة التي تساعد على بناء الدولة، فالانتخابات هي عملية قيام الشعب باختيار الأفراد الذين يمارسون السلطة نيابة عنهم، ويعد العراق من أوائل بلدان منطقة الشرق الأوسط التي نشأ وترعرع فيها النظام البرلماني، ففي حفل تتويج الملك فيصل الأول ألقى خطاباً أوضح فيه بإجراء الانتخابات، التي سيتمخض عنها مجلس تأسيسي، وهذا يدل ويؤكد أهميته في حياة الأمم.
مسار ديمقراطي
منذ تأسيس الدولة العراقية في العام 1921 اتضح المسار الديمقراطي لها، ففي خطاب تتويجه ملكا على عرش العراق في 23 آب 1921، اعلن فيصل بن الحسين بأن اول عمل سيقوم به هو اجراء انتخابات لاختيار المجلس التأسيسي، الذي سيقوم بوضع دستور للبلاد، وصدرت ارادة ملكية في 19 تشرين الاول 1922 بتشكيل المجلس، واجريت الانتخابات في 25 شباط 1924 من دون وجود احصائيات رسمية دقيقة عن عدد سكان العراق، واعتمدت الحكومة على التخمين اساسا لتقديره، واسفرت عن انتخاب 100 نائب لعضوية المجلس التأسيسي، وفي يوم افتتاحه في 27 اذار 1924 القى الملك فيصل كلمة على الاعضاء ذكر فيها ان مهمتهم هي البت في المعاهدة العراقية – البريطانية، ووضع الدستور، واصدار قانون انتخابات النواب. 
أنيطت السلطة التشريعيَّة وفق الدستور الى مجلس الأمة المكون من هيئتين تشريعيتين، الأولى هي مجلس الأعيان المكون من 20 عضواً يتم تعيينهم من قبل الملك ومدة العضوية في المجلس، هي ثماني سنوات على أنْ يستبدل نصفهم كل أربع سنوات، والثانية هي مجلس النواب الذي أشارت له المادة 37 من الدستور ونصت على {تكون طريقة انتخاب مجلس النواب بموجب قانون خاص يراعى فيه أصول التصويت السري ووجوب تمثيل الأقليات غير الإسلاميَّة}.
لم يشهد مشروع قانون مجلس النواب مناقشات حامية داخل المجلس التأسيسي، ولعلَّ أبرز وأطول المناقشات التي شهدها المجلس، كانت تتعلق بحقوق الطوائف غير الإسلاميَّة في الانتخاب والموضوع المتعلق بتقسيم الدوائر الانتخابية الى ثلاث مناطق تمثل ألوية بغداد والبصرة والموصل، وفي 12 اب 1924 تم التصويت على القانون، بعد أن حصل على اغلبية كبيرة، واحتوى على 52 مادة موزعة بين مقدمة ضمت أحكاما عامة واربعة فصول، اهم ما جاء فيها ان مبدأ الانتخاب يكون على درجتين، اي الانتخاب غير المباشر. إذ يقوم الناخبون بانتخاب مندوبين عنهم أولا، ثم يقوم هؤلاء المندوبون أو الناخبون الثانويون بانتخاب النواب، ويمثل كل ناخب 20 الف نسمة، ويكون قد بلغ الثلاثين من العمر، وان يكون من دافعي الضرائب، اما المنتخب الاول فيشترط أن يكون تجاوز الحادية والعشرين من العمر ومن دافعي الضرائب، وينتخب كل 250 منتخبا اولا منتخبا ثانيا، ويجب أن يكون المنتخب الثاني قد بلغ الخامسة والعشرين من العمر ومن دافعي الضرائب، وينتخب نواب اضافيون يمثلون الطائفة اليهودية والمسيحية في الدوائر الانتخابية الثلاث.
بدء انتخابات القوائم
بعد المصادقة على قانون انتخاب النواب ونشره في 22 تشرين الأول 1924، صدرت إرادة ملكية تقضي بتحديد 15 تشرين الثاني من العام نفسه موعداً لبدء انتخابات قوائم المنتخبين الاوليين، وبدأت الاستعدادات لخوض الانتخابات، التي سيتمخض عنها تشكيل اول مجلس نواب في العراق، وتحوّلت الى حدث سياسي مهم على مدى الأشهر العديدة التي استغرقتها، واتسمت الانتخابات بحيوية اكبر من انتخابات اعضاء المجلس التأسيسي، واشتركت في هذه الانتخابات ستة احزاب، هي حزب النهضة، حزب الامة، حزب الاستقلال، الحزب الديمقراطي، الحزب الوطني العراقي، وباستثناء حزب الامة، الذي كان أنشط الأحزاب في المنافسة الانتخابية، ولم يكن للأحزاب الاخرى دور واضح في توجيه الانتخابات وانما اقتصر دورها على مراقبة الانتخابات. 
لم تخلُ نتائج هذه الانتخابات من سلبيات رافقت سير العملية الانتخابية، منها عدم توفر احصاءات دقيقة لسكان العراق، حيث اصدرت الحكومة قراراً في 3 كانون الثاني 1925 بتشكيل لجنة لتدقيق نفوس العراق، مهمتها العمل من اجل تصحيح الزيادات الحاصلة وفق اسلوب التخمين، وكذلك لجعل عدد الناخبين منسجماً مع الخطة الموضوعة مسبقاً في تحديد عدد المقاعد، لكن هذا الاسلوب الاحصائي سبب اجحافاً لحقوق بعض الالوية. 
حيث تم تقليص عدد سكان البصرة من 180 الف نسمة الى 120 الف نسمة، اما السلبية الثانية فتكمن في تدخلات كل من الحكومة ودار الاعتماد البريطانية، حيث مورست ضغوطات مختلفة لضمان وصول مرشحيها الى مقاعد البرلمان.
 
فوز 88 نائباً
انتهت الانتخابات التي جرت في عهد حكومة ياسين الهاشمي، واعلن نتائجها النهائية في 23 حزيران 1925 حيث اسفرت عن فوز 88 نائبا، كان من بينهم 55 نائباً لم يدخلوا المجلس التأسيسي السابق، وعقد مجلس النواب اول اجتماع لهُ في تموز 1925م، وانتخب رشيد عالي الكيلاني، رئيساً للمجلس، وصدرت كذلك ارادة ملكية بتعيين اعضاء مجلس الاعيان وانتخب يوسف السويدي رئيساً له، وما يجدر ذكره أن رئيس الوزراء ياسين الهاشمي لم يستطع الحصول على أغلبية برلمانية فقدّم استقالة حكومته في 28 حزيران، وأسّس حزباً جديداً سمّاه حزب الشعب جعله حزب المعارضة وأسّس رئيس الوزراء الجديد عبد المحسن السعدون حزباً باسم التقدم. وكانت تلك بداية موفّقة للحياة النيابية في تاريخ العراق 
الحديث.
هكذا، بدأت الحياة النيابيَّة بشكل رسمي في العراق في 16 تموز عام 1925، بعد انتخاب (88) نائباً لعضوية مجلس النواب العراقي في دورتهِ الأولى، وقد تجلت هيمنة الطبقة الارستقراطية التقليدية بوضوح، من خلال تواجد نصرت الفارسي وصهره داود الحيدري، ورؤوف الجادرجي وصهره محمود صبحي الدفتري، ونظيف الشاوي وصهر آل الشاوي محمد أمين باش أعيان، الذي كان متزوجاً من بلقيس كريمة عبد المجيد الشاوي، فضلاً عن تواجد عبد المحسن السعدون وقريبه عبدالله فالح السعدون وناجي السويدي عديل عبد الكريم السعدون، ومحمد علي الإمام صهر عارف السويدي، وابراهيم كمال عديل تحسين العسكري شقيق جعفر العسكري. إضافة إلى ذلك، تواجد ابناء العائلة الواحدة في دورة انتخابية واحدة، من خلال تواجد الاخوين محمد رضا ومحمد باقر الشبيبي، والاخوين خيري الدين العمري وأرشد العمري، ومزاحم الباجه جي وابن عمته حمدي الباججي، ولم يخل المجلس من تواجد ممثلين عن أسرتي الهاشمي والجميل، وذلك بتواجد كل من ياسين الهاشمي وفخري الدين الجميل، وحكمت سليمان ممثلاً عن أسرة طالب الكهية المتنفذة. 
وعلى الغرار نفسه، كان للأسر الدينية حضور كبير في مجلس النواب، حيث تواجدت أسرة الكيلاني من خلال انتخاب رشيد عالي الكيلاني، وأسرة النقيب من خلال تواجد داود النقيب والياس النقيب، فضلا عن تواجد الشيخ احمد الداود، أما الأسر الاقتصادية فكانت حاضرة أيضاً من خلال تواجد عبد الحسين الجلبي وعبد المحسن شلاش.
 
حقيقة تاريخيَّة
هناك حقيقة تاريخية لا بُدَّ من الإشارة إليها، وهي أنَّ التدخل الحكومي الكبير في الانتخابات النيابيَّة، هو الذي ساعد في إيصال القوى السياسيَّة التقليديَّة إلى قبة البرلمان، لا سيما بعد الضغوط التي تعرضت لها الحكومة من قبل البلاط والسلطات البريطانيَّة، من أجل إيصال أغلبية مؤيدة لعقد معاهدة جديدة، لذلك سعى الملك فيصل الأول إلى ضمان الأكثريَّة، وأيد مساعي وزير الداخلية عبد المحسن السعدون وتدخلاته الرامية إلى إيصال أغلبية إلى المجلس لا تؤيد حكومة ياسين الهاشمي، الأمر الذي أدى إلى صراع حاد بين الطرفين. 
مع العلم ان وزارة الداخلية هي الجهة المهيمنة على شؤون الانتخابات، لا سيما في المناطق العشائرية، لأن الجهاز الإداري المسؤول عن إدارة الانتخابات، مرتبط أساس بوزارة الداخلية، لذلك ومن أجل أن يضمن الموظفون التابعون لها نجاح مرشحيهم بين أفراد العشائر الذين كانوا يؤلفون نسبة عالية من سكان العراق، جعلت من انتخابات المنتخبين الأوليين في النواحي صورية، إذ يحشر الناس وتكتب لهم الأوراق، وترمى في صناديق الانتخاب، ويقال لهم انصرفوا، فينصرف أفراد العشائر وهم لا يعرفون عن سبب مجيئهم شيئاً، وعلى هذه الشاكلة ازدحمت المجالس النيابية بأعضاء من شيوخ العشائر، وبتعبير أوضح، أن الوحدات الإدارية التابعة لوزارة الداخلية المتمثلة بالمتصرف والقائممقام ومدير الناحية، كان لهم دور كبير في تنظيم وتصحيح قوائم الانتخابات، بالتعاون مع المختارين، وعند إجراء الانتخابات، فأن المختارين يتولون مراقبة الانتخاب، وإعلان انتهائه، وبعد الانتهاء يقوم المتصرف بتوقيع المضابط الانتخابية، عن التدخل الحكومي في الانتخابات، الذي يصفه توفيق السويدي الذي شكل في ما بعد ثلاث حكومات وشغل منصب نائب رئيس الوزراء ووزير في حكومات متعددة: {الانتخابات انتهت بانتخاب مرشحين كان يتفق على تعيينهم من قبل الملك ووزير الداخلية، ومن ورائهم المستشار البريطاني ورئيس الوزراء، إذ كانت قائمة المرشحين تبقى مكتومة حتى يوم الانتخابات، وتبلغ بالهاتف إلى المتصرفين، ويطلب منهم بذل جهد كبير لإنجاحها، حتى أنه وقع أكثر من مرة أن طلب من المرشح أن يعطي تعهداً خطياً يحفظ لدى رئيس الوزراء، بأنه إذا انتخب نائباً كمرشح من الحكومة، فإنه يؤازرها دائماً، حتى إذا استقالت، فإنه يؤازر أي حكومة يأتي بها جلالة الملك}، بيد ان الإصهار والأقارب كانوا أكثر استجابة من غيرهم في تلبية مطالب الحكومة، لذا بذلوا كل ما بوسعهم من أجل ترشيحهم للانتخابات، إذ كانت تعد قوائم خاصة بهم بوصفهم من مؤيديها وتابعيها، حتى انهم سموا بمرشحي الحكومة. وينطبق الأمر نفسه، على شيوخ العشائر الذين وصل عددهم إلى ثمانية عشر عضواً في الدورة الأولى لمجلس النواب.
 
تدخلات بريطانيَّة
كان عمر هـذه الدورة الانتخابية قصيراً، فقد حل الملك البرلمان مكرهاً وبضغط مـن المندوب السامي البريطاني هنري دوبس مع بـداية اجتماعه الاعتيادي الثالث، وكـان للصراعات السياسية بيـن الاحـزاب والنواب داخل المجلس وعـدم رضا البريطانيين عن سيـاسة الملك ووزرائه التي يرأسها جعفـر العسكري فـي اصرارهم على فرض التجنيد الالزامي، أثره فـي ذلك، اضافة الى انهيار وزارة العسكـري الائتلافية بعـد توقيعها معاهدة جديدة مع بريطانيا أواخر عـام 1927، لم تحقق فـي نظر المعارضة الشـروط الواجبة لاستقلال العراق عنـد دخوله عضواً في عصبة الامـم، فكان تكـليف عبد المحسن السعدون برئاسـة الوزارة الجديدة حسب رغبة المنـدوب السامي واصرار السعدون على حل المجـلس النيابي، الذي سبـّب لوزارته السابقة ثلاث هزائـم أدت الى استقالته العامل الرئيس في الوصول بالبرلمــان العراقي الى حلّه تمهيـداً لإجراء انتخابات جديدة لصالح وزارة السعدون، ما شكّل سابقة غير حكيمة على طريـق التجربة البرلمانية في العـراق.
 
بذرة الديمقراطية الأولى
خلاصة القول، إنَّ انتخابات 1925 كان البذرة الاولى التي زرعت في طريق الديمقراطية في العراق، وكانت تجربة فتية جيدة على الرغم من السلبيات التي رافقتها، وابرزها التدخل الحكومي الواضح في نتائجها، والاحتكار الطبقي، وهيمنة الأسر الارستقراطية التقليدية على المشهد السياسي، واقصاء المرأة من الترشيح للانتخابات، وغياب الاحصاء السكاني الدقيق.
 
* باحث وأكاديمي