هل تؤثر وسائط التواصل في تغيير قناعات الناخب العراقي؟

منصة 2021/09/15
...

 الدكتور صفد الشمري *
هل يعول المرشحون على وسائط التواصل الاجتماعي بالدرجة الأساس في تغيير قناعات الناخبين، أم أنهم يفضلون أساليب أخرى، أكثر حيويَّة من وجهة نظرهم، لإحداث مثل هذا التغيير، وما حجم التأثير الأوعية الرقمية في التنافس الانتخابي، التي تتزايد أدوارها في توجيه الممارسات السياسية وحسمها، حين باتت المصدر الأساس للقصص الأكثر تداولا بين أفراد المجتمعات.
 
بشكلٍ عام، أثّرت الاستخدامات الرقمية المتعددة في الفعاليات الحكومية والشعبية جميعها، ومنها أكثر الممارسات ديمقراطية على مستوى العالم، ممثلة بالانتخابات، وبصرف النظر عن مستوى اعتماد تلك الممارسة على الأوعية الرقمية، وإنْ كان جزئياً أم كلياً، فإنَّها تُنزل الأثر الفاعل في العمليات الانتخابية بالمجمل، ومنه ما يرتبط بحدّها الأدنى في التأثير بتشكيل في “المزاج الانتخابي” لدى الجمهور والتأثير في خياراته الانتخابيَّة، تحت ضغط محتويات رقمية مُضللة أو خادعة أو حتى مُربكة، تعتمد على تطبيقات رقمية ساندة، لها القدرة في صناعة محتويات التزييف العميق، التي تعدُّ أحد أبرز نتاجات الذكاء الاصطناعي.
تخوض أطروحتنا في الدور الممكن لوسائط التواصل الاجتماعي بالعراق في مجريات انتخابات مجلس النواب العراقي 2021، والتي نصت المادة 42 من قانونها، ذي الرقم (9) لسنة 2020، على أنَّه {في حال اعتماد التصويت الإلكتروني تعتمد التعليمات التي تصدرها المفوضية لإجراء عملية الاقتراع والعد والفرز}، الأمر الذي يتطلب إيجاد قواعد تنظيم تلك الوسائط، التي ما زالت تحتكم لتشريعات عراقية بها حاجة إلى التحديث، وفي هذه المرحلة بالذات، ضمانة لهذا الاستحقاق الوطني، ويستدعي ستراتيجيات توعية الجمهور العراقي بمخاطر تلك الوسائط، وبكيفيات الإفادة من عائداتها الإيجابيَّة على المستوى 
المنظور.
 
الحوكمة الرقميَّة
يكون نقاش دور وسائط التواصل الاجتماعي في تغيير قناعات الناخبين غاية في الأهمية، لا سيما تحت ضغط تطورات الظاهرة الرقميَّة المتسارعة، التي تعاني في أساسها من خلل عدم التحضير لدينا والإعداد لقواعد التعاطي معها، مع قرب الانتخابات التشريعيَّة التي اعتمدت التسجيل البايومتري بوصفه {تسجيل بيانات الناخبين وجمعها الكترونياً من خلال استخدام استمارة التسجيل البايومتري، وإضافة البيانات الحيويَّة، لغرض تكوين قاعدة بيانات دقيقة ومحدّثة لسجل الناخبين}، يستدعي الوقوف على عددٍ من مؤشرات أداء تلك الوسائط، التي تعاني من غياب المنهجيَّة وعدم اتباعها لمعايير الجودة، على الرغم من دورها الواضح في الحراك الاجتماعي المحلي العام، وهو ما يمكن أنْ ينزل شديد أثره في الحملات الانتخابية، بالتسويق أو التسقيط لمرشحين معينين، أو التحريض بالضد من المشاركة في الانتخابات تحت ذرائع متعددة.
لقد بادرت إدارات بعض وسائط التواصل الاجتماعي، ومنها فيسبوك، باتخاذ بعض التدابير الساندة وتقييد المنشورات الممولة، لتوفير قدرٍ من العدالة والشفافية لدعم الانتخابات العراقية، حين قالت تارا فيشباخ، مديرة السياسة العامة في المشرق العربي: {إنَّ أي شخص ينشر إعلانات على فيسبوك أو انستغرام حول شخصيات سياسيَّة أو أحزابٍ سياسيَّة أو حملات مرتبطة بالانتخابات في العراق سيضطر الى الخضوع لعملية ترخيص إعلان اعتباراً من آب... ولن يسمح بالإعلانات المتعلقة بالانتخابات والسياسة إلا من المعلنين المصرح بتواجدهم داخل الدولة... ونعتقد أنَّ المزيد من الشفافية يؤدي الى زيادة المساءلة والمسؤولية لكل من فيسبوك 
والمعلنين}.
إنَّ هذا الإعلان وعلى الرغم من فاعليَّة مثل تلك الخطوة على أرض الواقع، فإنَّنا نعتقد أنَّ إمكانيَّة الوثوق بالالتزام الكامل ببنود هذا الإعلان من قبل إدارة {فيسبوك} يبقى ضرباً من الخيال، في ظل تقدم تطبيقات التحايل الرقمي، ناهيك عن عدم توافر ضمانات شفافيَّة عمل الوسائط الرقميَّة بموجب تلك البنود أمام الأطراف الرسميَّة وغير الرسميَّة في العراق، من قبل إدارات تلك الأوعية في ظل غياب تنظيم عمل وسائط التواصل الاجتماعي جميعها بالبلاد، ما يفوّت علينا فرص الضغط عليها لاحترام التعليمات واللوائح المحلية الصادرة في هذا 
المضمار.
ويأتي اهتمامنا الكبير في إعلان {فيسبوك} عزمه تقييد الإعلانات والمنشورات المتعلقة بالانتخابات العراقيَّة وفق ضوابطه تلك، أهميته للجمهور العراقي في تلقي معلوماته الرئيسة، وهو ما يُظهره بحث الدكتورة بشرى السنجري عن {دور مواقع التواصل الاجتماعي في تفعيل المشاركة الانتخابية للشباب العراقي}، الذي تمثلت مشكلته الأساسيَّة في الكشف عن الدور الذي تؤديه وسائط التواصل الاجتماعي في تفعيل المشاركة الانتخابية للشباب العراقي، وهو يقع ضمن البحوث الوصفيَّة باتباع المنهج المسحي لدراسة الجمهور، واعتمد الاستبانة كأداة للبحث على عينة من شريحة الشباب من الطلبة والموظفين والذين يزاولون الأعمال الحرة والعاطلين، وكان من بين ما توصلت إليه من نتائج بأنَّ {فيسبوك” قد حقق أعلى نسبة استخدام لمتابعة أخبار الانتخابات الماضية من قبل المبحوثين وبنسبة مرتفعة جداً بلغت 96.8 %، وتكمن الدوافع وراء استخدامهم لهذا الموقع من دون غيره، في أنَّه يتيح الفرصة للتعبير عن الآراء بحرية مطلقة، بحسب وجهة نظرهم، وبنسبة
 58.1 %، ثم متابعة الأخبار بشأن المرشحين للانتخابات بما نسبته 53.1 %.
 
التغيير الممكن
يبقى السؤال الأكثر أهميَّة في هذه الاطروحة: هل يمكن أنْ يصل حجم تأثير وسائط التواصل الاجتماعي إلى تغيير قناعات الناخبين في العراق، وإنْ كان التأسيس لهذا التغيير ممكناً من حيث المبدأ، فما هو حجم أثره على أرض الواقع؟
بشكل عام، فإنَّ وسائط التواصل الاجتماعي يمكن أنْ تكون مؤثرة في قناعات الناخبين، لا سيما مع أولئك الذين لم يحسموا أمرهم إلى مرشحٍ معين، وإنَّ خيارات عدة تظهر أمامهم حتى اللحظة الأخيرة قبل يوم الاقتراع، وهنا يكون حجم الأثر سلبياً في مرشحٍ معينٍ ممن وضعوه ضمن قائمة تفضيلاتهم الانتخابيَّة غير المستقرة، حين يطالعون قصصاً سلبيَّة تتعلق بهم، ينشرها صناع محتويات الصراع الانتخابي، وعبر أطر الاستهداف الإلكتروني المتعارف 
عليها.
لكنْ.. مع شريحة الناخبين الذين حددوا خياراتهم الانتخابيَّة بناءً على مرجعيات سياسيَّة أو عقائديَّة أو عشائريَّة، فإنَّ أثر وسائط التواصل الاجتماعي في العراق، يكون أقل بكثير، للدرجة التي قد تتراجع فيه فرص التأثير إلى مراتب تكاد تكون لا تذكر، حين يكون الاتصال المباشر، أي وجهاً لوجه، عبر اللقاءات والجلسات والاجتماعات والمؤتمرات والفعاليات الانتخابيَّة المفتوحة، المجال الأكثر أهمية في تعزيز خيارات الناخبين.
إنَّ مثل الفرضيَّة هي ليست مقيدة في العراق فقط، بحكم تراجع التنظيم الرقمي فيه، والذي أكدنا على ضرورة مواجهته وفق المناهج الاحترافيَّة في أكثر من مناسبة، بل تمتد إلى مجتمعات قريبة منا، تتشابه مع مجتمعنا العراقي في تركيبته الاجتماعيَّة، التي يكون فيها للعشيرة أو القبيلة الدور الأكبر في ضبط وحراك الأفراد ودفعهم لتبني خياراتهم الستراتيجيَّة في القضايا الحاسمة ومن بينها الخيارات الانتخابيَّة، على وفق ما يتوافق مع نهج العشيرة أو القبيلة وتوجهها.
إذ تشير الدراسات المتعلقة بالوسائل الأكثر تأثيراً في دعم أو تغيير قناعات الناخبين في الكويت على سبيل المثال، الى أنَّ الاتصال المباشر (وجهاً لوجه) هو الأكثر تفضيلاً في استهداف الناخبين والوصول إليهم في انتخابات مجلس الأمة 
الكويتي.
لقد ظهر جليّاً في الانتخابات البرلمانية الثامنة عشرة في الكويت، بأواخر 2020، أنَّ غياب الاتصال المباشر مع الناخبين بفعل إجراءات مواجهة وباء كورونا، ألحق ضرره بالكثير من المفاصل المرتبطة بهذه الممارسة الانتخابيَّة، بالنظر لما لهذا المستوى من الاتصال من أهمية في تعزيز أو تغيير قناعات الناخبين، إذ كانت السرادق الفخمة تنصب بشكل مكثف لاستقبال الناخبين وعقد اللقاءات المباشرة لتقديم البرامج الانتخابيَّة، وانَّ شركات مختصة لإدارة تلك السرادق وتوفير وجبات الضيافة والطعام على مدار اليوم طيلة فترات الحملات الانتخابيَّة، والتي أعلنت عن تضررها كذلك من إجراءات مواجهة كورونا مع انتخابات العام الماضي.
 
الخريطة الرقميَّة
يتطلب توظيف وسائط التواصل الاجتماعي في العراق على النحو الإيجابي بمسعى بلوغ الاستحقاق الوطني المقبل، والمتمثل بالانتخابات التشريعيَّة في تشرين الأول المقبل، اتباع آليات دقيقة، تكون محاورها الرئيسة بإطلاق حملة وطنيَّة لتسويق الوعي للجمهور، بالاستخدام الرشيد لوسائط التواصل الاجتماعي قبل الانتخابات، وإشعارهم بالمخاطر التي يمكن أنْ يتعرضوا لها في المحتويات الرقميَّة المزيفة أو المفبركة، وتوجيههم نحو اعتماد المصادر الدقيقة لتحري صدقيَّة المعلومات التي يتلقونها عبر حسابات تلك الوسائط.
وهنا ينبغي تعريف المستخدمين والجمهور بشكلٍ عام بالإجراءات القانونيَّة والنصوص التشريعيَّة الرادعة في حال توظيفهم لحساباتهم الرقميَّة لترويج ما يتعارض مع القيم الأخلاقيَّة والديمقراطيَّة ويكرس من نزعات التحريض ويعكر السلم الأهلي، والتأكيد على مرشحي الانتخابات بعدم تضمين خطط اتصالهم بالجماهير بوساطة الأوعية الرقمية المتعددة، كل ما من شأنه الإساءة إلى القيم الوطنيَّة والديمقراطيَّة والاعتباريَّة والرمزيَّة، وفيه إساءة لمرشحين آخرين أو التحريض بالضد منهم، إلى جانب الإعلان عن تشكيل فرق رصد الحملات الانتخابيَّة عبر الأوعية الرقميَّة من الجهات الحكوميَّة والهيئات المستقلة المعنية والمختصين ومنظمات المجتمع المدني، وتقديم تقاريرهم الدوريَّة إلى الرأي 
العام.
إنَّ مثل تلك الآليات تتطلب توفير الضمانات الرسميَّة والقانونيَّة بعدم التضييق على الحريات الديمقراطيَّة عبر الأوعية الرقميَّة قبل الانتخابات وأثناء إجرائها وبعد الإعلان عن نتائجها، وضمان قيامها بأعمالها في الرقابة وتبصير الرأي العام، وألا يكون الرصد الرقمي لتلك الأوعية تضييقاً على أدائها، بل تمسكٌ بالعدالة 
والشفافيَّة.
وهو ما يقتضي تدريب القائمين على الحملات الانتخابيَّة على مناهج صناعة المحتويات الرقميَّة الاحترافيَّة، على وفق معايير الجودة، وبما تسمح به الأعراف الاجتماعيَّة والقيم الأخلاقيَّة والديمقراطيَّة في المجتمع العراقي، إلى جانب الحوار مع إدارات وسائط التواصل الاجتماعي في العالم والاتفاق على تقييد مؤقت لنشر المحتويات المتعلقة بالانتخابات العراقيَّة، بموجب لائحة قانونيَّة معلنة بكامل بنودها لضمان العدالة، لا سيما ما يتعلق بالمنشورات الممولة، وبما لا يتعارض مع الحريات 
الديمقراطيَّة.
* خبير التواصل الرقمي