شعريَّة اللغة وتشكلاتها في «ورود شقيَّة الملامح»

ثقافة 2021/09/16
...

  أ. د. سعد التميمي
 
لما كان الخطاب الشعري مغايرا لأنواع الخطاب الأخرى، ويقوم على وفق قوانين تتحكم باللغة من خلال شبكة العلاقات التي تشكّل بها، لينتج معاني شعرية ذات فعالية عالية، وقوة تأثير كبيرة تستفز المتلقي وتجذبه نحو النص ليتفاعل معه ويعيش أجواءه، ومن هنا فإن اللغة في الخطاب الشعري لم تعد قناة توصيل فحسب، بل توصيل وتأثير، وذلك من خلال ما تخلقه قوانين خاصة بها، ودراسة شعرية اللغة وتشكلاتها في الخطاب الشعري تعني الوقوف عند جماليات التعبير في هذا الخطاب والكشف عن قدرات الشاعر في فهم اللغة واستيعاب طاقاتها الكامنة وتفجيرها بغية تقنين ما يحمله من مشاعر وانفعالات اتجاه شتى الموضوعات من أجل خلق قناة اتصال وتأثير بالمتلقي.      
وفي دیوان (ورود شقية الملامح) للشاعرة اليمنية هدى ابلان تتكشف المحاولات الأولى في خلق خطاب شعري، تقوم قوانين اللغة فيه على الانزياح والمفارقة الدلالية، التي تشحن الخطاب بطاقة شعرية عالية، ففي قصيدة (إلى روحي) التي أهدتها إلى كل أخت وأم في الأرض المحتلة تقول الشاعرة:                                                                                   
بيوت على ضفتيها ألم 
نساء تبث حنانا ودم 
ماذا أقول
 ورغم الأقوال
 ما زلت أرسم حب الفجيعة 
خريطة عمر
نهارا لأحلامنا الولهى الوديعة
 وما زلت أكتب
 الى أخت روحي
 سطورا من نورنا المستباح 
لأعلن منها بساطة قلبي 
وأمزج فيها لهيبا بعمق غصن الجراح 
فينبت جمر التوحد 
لحن التجدد.
فالشاعرة التي تُعد من أبرز الأصوات النسوية اليمنية في قصيدة النثر، لم تلجأ إلى الخطاب المباشر ذي الوظيفة الإبلاغية بل لجأت إلى الخطاب المؤثر الذي تتكسر فيه القواعد المنطقية للغة لتخلق بعد علاقات جديدة تحمل بين طياتها دلالات عاطفية عالية تكشف عنها جماليات التعبير هنا، فوصف البيوت والنساء في الأرض المحتلة لم يكن مباشرة، وهذا ما تكشفه إضافة (ضفتي) إلى البيوت من خلال الضمير العائد إليها، وكذلك إعمال الفعل (تبث) بعد إسناده إلى (النساء) في (الحنان) و(الدم) والمفارقة في الاعمال الثاني الذي تصور فيه حزنها أرض فلسطين، وعلى النسوة اللواتي يتصارعن مع الموت من أجل الوطن وتستمر الشاعرة في توظيف الانزياح الذي ينتج عنه عدد من المفارقات الدلالية التي من شأنها أن ترسم ملامح الجمال، وتتجسد فيها اللغة، وهذا ما نجده في أعمال أرسم في (حب) وإضافة المعمول إلى (الفجيعة) فضلا عن اضافة (خريطة) إلى (عمر) ويضاف إلى ذلك وصفها الأحلام بالولهى والوديعة، فهذه المفارقات تستند إلى الانزياح وتخلق دلالات ذات إيحاءات مؤثرة تجعل من الخطاب الشعري اكثر دينامية وتأثيرا، وهذا ما جعل الشاعرة تتخلص من قيود الموضوع الذي عالجته في القصيدة الذي طالما سحب الشعراء نحو اللغة الاعلامية والخطابية، وذلك لما للعاطفة من هيمنة كبيرة فيه. ولعل السبب في ذلك هو أن الشاعرة تكتب القصيدة الحديثة التي لا تقيد الشاعرة، فضلا عن الوعي بما تمتلكه اللغة من طاقات دلالية شعرية عالية تكشفه القصائد، اذ استطاعت الشاعرة أن تخلق خطابا شعريا فاعلا ابتعدت فيه عن اللغة المباشرة والعلاقات التلقائية، وهذا ما يتضح في قصيدة (إلى طفل الحجارة) اذ تقول:                                                              
فليسام الحلم لديك
 وليعلُ فوق الداء 
وليتطاير شعاع يديك 
حين يقبلك الآتون/ الميتون 
ويرون العرس المنتصب 
فوق / فوق العين يرون 
أطياف نارنا من حجارك تلهب
 ألوان رسوماتك
 غابات أو أدغالا
 مياه خوف 
جنائز تقترب
 يا طفلا ما زلت صغيراً
 تنام على حلم الورد
تشتري السحب سريرا 
أتعشق أجساد الشهداء؟
أاتبحث عن كسره ألم؟
 وحفنة ماء ودماء
تتخذ السوط اللاذع أغنية
 وموت الدمع غديرا
لعل في حصيرك الان
فراشا من الزمهرير وثيرا 
فعلى الرغم من أن الموضوع قد يغري الشاعرة بالخطابية والمباشرة إلا أن إبلان نجحت في الابتعاد عن ذلك من خلال تشكيل المعاني التي يقوم عليها موضوع القصيدة بطريقة مغايرة تقوم بشكل كبير على المفارقة التي تحقق المفاجأة والدهشة في المتلقي لتجعله أكثر تفاعلا مع القصيدة، بما تحمله من مشاعر وانفعالات صادقة، وهذا ما يتجسد في اضافة (شعاع) إلى (يدي) ووصف (العرس) بالمنتصب واضافة (مياه) إلى (خوف) و(حلم) إلى (الوردة)، وكذلك اضافة (كسرة) إلى (ألم) و(موت) إلى (الدمع) فضلا عن ذلك التوظيف الناجح للتضاد في قولها (الآتون، الميتون) و(غابات، أدغال) و(ماء، دماء) و(موت الدمع، غدير) اذ جاء التضاد في القصيدة ليغذي شعرية اللغة بطاقات دلالية ايحائية عالية أسهمت في رسم جماليات تعبير وجعلت الخطاب مغايرا ومؤثرا، فضلا عن ذلك كله نجاح الشاعرة في اختيار معجمها الشعري في معظم قصائدها فضلا عن نجاحها في اختيار السياقات المناسبة لزج مثل هذه الألفاظ لتكون فاعلة ومؤثرة، أخيرا نقول: إن هذا الديوان يمثل الخطوة الأولى للشاعرة وقد تبع هذه الخطوة خطوات أخرى، استطاعت فيها الشاعرة تطوير قدراتها في التعامل مع اللغة واستثمار طاقاتها الدلالية والشعرية مما نتج عن ذلك فهم طبيعة شعرية اللغة وتشكلات الخطاب الشعري، والقوانين التي تقوم عليها، والدور الذي تؤديه هذه القوانين في التأثير في المتلقي من خلال تلوين القصيدة بألوان جمالية شتی لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال تأملها والغوص إلى أعماق التراكيب من أجل الوصول إلى
 أسرارها.