يوتوبيا المدن

ثقافة 2021/09/18
...

 حبيب السامر
 
تستهويني فكرة السفر وتسحرني دائماً، إذ في كل مرة أزور هذه المدينة أجدها تختلف عن زيارتي السابقة لها، أو هكذا يخيل لي، حتى مدننا المعتادة، والتي نتردد عليها، وإليها، كثيرا نجدها تختلف بطقوسها وحركة ناسها، قد يترسب في رأسي حجم أبنيتها ومداخلها ومخارجها، وربما ساحاتها.. لكن بالمقابل هناك بعض مدن لا تجدها تتشابه مع سابقتها من الأيام، قد تأخذك الحيرة وأنت تنظر الى شوارعها، أرصفتها، مكتباتها، عوالمها، متاحفها، أنهارها، وحتى مساءاتها المنقوشة بقطع الغيوم المتباعدة والمتداخلة وكأنها لوحة من طبيعة الأيام الشتائية، تعبر الشارع الفاصل بين مقهيين تنبعث منهما موسيقى تسحبك عنوة إليها، هذه أول مرة أجلس في هذا المقهى، على الرغم من أنني مررت به كثيرا، وأنا أنظر الى طاولاته الدائرية والمستطيلة، وهمس بعض الصديقات والأصدقاء، هناك من يطالع صحيفة، وآخر يتابع مقطع فيديو عبر شاشة موبايله، كانت تجذبني رائحة القهوة، أشعر بدهشة تخترقني وأنا أحاول أن أخفي خجلي الجنوبي.. أتابع حركة الناس جوار المقهى، أرصد حركة المارة العجولة على رصيف بمحاذاته..
كدت أن أحلّق في هذا الفضاء الساحر، وكأنني أول مرة ألمحه، أقول: إن المدن تتجدد، رغم تقادمها وتهالك أبنيتها، حتى سواحل أنهارها وبحارها تبهرك وأنت تتأمل الفسحة الزرقاء اللامتناهية.. الأضواء المتمايلة، بعض قوارب مسرعة.
قبالة المقهى الصغير، وعلى مرمى عيني تجلس امرأة ترتشف قهوتها، وهي تتأمل الوجوه المتعاقبة، من شرفة قديمة لها مذاق المدن المسحورة التي تتلبسك، تسكن أعماقك، كأنها المدن المتخيلة التي تراودك كلما أفقت من سطوة التأمل الغارق في يوتوبيا السحر، يبدو أن المشهد يتكرر كل يوم، امرأة تمارس طقس التأمل في وجوه المارة، ربما اعتادت على هذا المنظر، الجلوس في شرفة صغيرة، طاولة خشبية قديمة، دخان ينحسر على حائط قريب، تصاعد أبخرة القهوة.. وكتاب مركون في زاوية الطاولة.. وهي تطل من الشرفة أيضا، انتصبت الأركيلة التي انشغلت في تعميرها والنفخ في جمرات شبه منطفئة.
لا أعرف لماذا واصلت التلصص على تلك المرأة المنشغلة في ترتيب وقتها والتلذذ بمتابعة متعة حضورها اليومي، فعلا.. لا أعرف لماذا تركت كل تلك الفضاءات السحرية، العطور المغرية وهي تتناوب على رصيف مزدحم، بقامات مختلفة ورشاقة مذهلة، كانت الحركة تشغلك وتجذبك، فيما لو تركت امرأة الشرفة تمارس طقسها اليومي، هل كانت تلمح نظراتي وتشخص انشغالي وهي تخرج/ تدخل من باب صغير الى شقتها.؟ لا أعتقد ذلك، لكن ربما كانت تلمحني كالآخرين، وتغض البصر.. لِمَ لا.. وظيفتها كما يبدو ملاحظة حركة العابرين، والجالسين في المقاهي المقابلة لشقتها في الطابق الأول، أو هكذا
أتصور ربما!.
بدأ الغروب يلملم وجه الضوء، سرعان ما ترك مساحة معتمة على كل الأماكن، الضوء المندلق من سقف في الشرفة يضيء مساحتها، بدأ رواد المقهى ينسحبون، وفي الشارع المحاذي خَفَتَ وقع أقدام النساء، صار الفضاء بيننا أوضح رؤية، تركتْ الكتاب جانبا، وبدأت تجول بنظرها، لم يك في المكان غيرنا.. لوحت بيدها، وكأنها تشير لي.. حاولت أن أشغل نفسي في فنجان القهوة الفارغ.. رفعت رأسي وتلويحتها مستمرة.. تداركت، كان النادل يمسح آخر الطاولات المستديرة والمستطيلة، ولم يبق في المكان إلا أنا وطاولتي التي توزعت عليها أوراقي وبعض كتب.. رفعت بصري لم أجد امرأة في
 الجهة المقابلة.