المثيرات الجمالية في وساوس أمير ناصر

ثقافة 2021/09/18
...

 أحمد الشطري
 
ليس جديدا إذا ما قلت: إن هناك الكثير ممن يظنون أن قصيدة النثر أسهل من القصيدة الموزونة، وهؤلاء في الواقع لا يميزون بين الشعر وغيره من الكلام، بل هم يعتقدون أن الأوزان هي من تمنح الكلام جواز العبور نحو الشعرية، سواء كانوا ممن يكتبون ما يسمونه: (قصيدة نثر)، أو ممن يكتبون الكلام الموزون بهوية الشعر.
وهذا ما فتح الباب أمام هذا السيل المتدفق ممن يحسبون أنهم شعراء قصيدة نثر، سواء بما ملؤوا به المكتبات، أو ما سوّدوا به صفحات التواصل والمواقع الالكترونية، وحتى الصحف التي باتت تخضع طوعا أو جبرا لسلطة الشياع والعلاقات الاجتماعية، فقد أصبح الكثير من هؤلاء (المتشاعرين) يملكون حضورا اعلاميا كبيرا، لا بفضل جماليات كتاباتهم، بل بفضل أشياء اخرى بعيدة عن الشعر وجمالياته.
ولعل بعض هؤلاء ابتدعوا طريقة مخادعة تكمن في تحويل النص النثري إلى أحجية، وكلمات متقاطعة لا يخرج منها القارئ بشيء، ولكنه يخضع لسلطة الإيهام، ودفع الظنية خوفا من أن يقال عنه بأنه لا يفهم، متذرعين بما نقل عن أبي تمام عندما (قال له أحدهم: لماذا لا تقول ما يفهم، فرد عليه قائلا: ولماذا لا تفهم ما يقال)، مع الاحتفاظ بالفارق بين الموقفين.
وعلى غير ما اعتدت عليه في قراءاتي للمجاميع الشعرية أضع هذه المقدمة لأعلن عن انحيازي للشعر الحقيقي بكل أشكاله، الشعر الذي يعبر إلى القلب (بفيزة مستحقة) وليست مزورة. وهذا ما يتمثل بشعر أمير ناصر، هذا الشاعر الذي يفجّر في داخلك الدهشة بمفرداته البسيطة المتداولة، وبصوره التي تنفتح أمام عينيك من دون أن تحتاج الى معاول للبحث عنها، كلمات ترقِّص دواخلك بموسيقاها التي لا تعلم من أين تأتي، ولكنك تستشعر بضربات إيقاعها في أعماقك، فتهتف بلا شعور: (يا الله....). 
ولعل نصوصه التي ضمتها مجموعته (وساوس الظهيرة) الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2021، خير مثال على ذلك، فهو يقدم لنا هنا نصوصا أجمل ما بها أنها تعانق قلبك بكلّ ألفة ومحبة، وإنك تحس بأنها صوتك الذي يصرخ في داخلك ولا تدري كيف تخرجه، إنك لا تحس معها بغربة، فكلماتها وحروفها تقفز على شفاهك مثل عصفور أليف: 
(يُرضيكِ أهيمُ في رمضاء ظهيرةٍ 
غادرها حتى باعةُ الثلج،
وبقيتْ وحدَها،
تطالعُ دموعي اليابسة 
وحيرةَ عيوني)
ما يميز أمير ناصر هو هذا الاستخدام الذكي لمفردات متداولة تضفي على النص جمالية عالية، وتعطيه حيوية لكي ينسكب في أعماق القارئ كما ينسكب الماء في جوف الظمآن، فمثلا في نص (يرضيكِ) نجد هذه المفردة وهي من المفردات المتداولة، والتي شكلت ثريا النص، ثم أستخدمها الشاعر كلازمة في بدء كل مقطع، قد جاءت منسابة ومنسجمة لا تشعر معها بالتكلف أو بقسرية الاستخدام، بل إنها قادرة على توطيد العلاقة بين الشاعر والمتلقي؛ ليشعر الأخير بأن ما يقرؤه هو صوته المألوف الذي يملأ دواخله ويتسرب في مساماته.
 في نصه هذا وفي نصوصه الأخرى تستشعر الرقة والعذوبة تنساب من حوارياته، إنّه يهمس بالكلمات ولا يصرخ بها؛ لذلك تراها تخرج بكل هدوء وطراوة: (وكلّ ما أبغيه
 كسرةَ كلام 
أملأ بها طاستي، 
بكلِّ ما يحملُ المُحِبُّ من هوانٍ)
وأمير ناصر على الرغم من جنوحه نحو المفردة البسيطة، لكنه يقدم بين حين وآخر فكرة فلسفية ما، أو صورة بعيدة العمق، ولكنه يعمد الى جعلها تنفتح في ذهنك ببساطة ومن غير ضجيج في نص آدم يقول:
(كل منا له أم  
القريب والبعيد، الكبير والصغير له أم 
يؤم إليها، نفر واحد ليس له أم 
لذلك أخطأ، وطرد، وانتكس،
وتعذب، وثمة أخبار مؤكدة 
تقول: إنه مات 
مات دون مهد ودون غناء ودون محبة).
بهذه المفردات المفعمة بالبساطة والألفة يقدم لنا أمير ناصر في نصه هذا فكرة فلسفية واجتماعية عن طبيعة نشوء الإنسان وأهمية دور الأم في البناء النفسي والاجتماعي للطفل، فنراه يرسم لنا لوحة باهرة لعمق العلاقة بين الإنسان وأمه، ثم يمنحنا مقترحات لمعنى كلمة (أم أو أمهات)، مستلا ذلك من صورة الأم في مجتمعنا، والتي هي غالبا ما ترتسم في مخيلة الجنوبيين أو العراقيين عموما بهيئة الثكلى فهي (أمُّ آهات). 
ما يميز أمير ناصر أيضا إضافة لابتعاده عن المفردات القاموسية هو توظيفه للهجة العامية سواء كانت مفردات أم جملا، ولكنه توظيف يضفي جمالا للنص وليس مقحما:(لماذا أراك مثل (ألف) الـــ اه 
ثم لماذا تكدس الدموع في عينيك 
لا تقل لي (لوكت العازة).
وفي مجموعته هذه أيضا هناك ومضات شعرية تحمل صورا غاية في الروعة والعمق:( لا أظنكِ بعيدة، 
و أنا أتجدد مثل لحـــاء 
حارساً لبك).
هذه اللوحة العميقة في مدلولاتها والتي يصور لنا فيها العلاقة بين الشاعر وحبيبته، أو بين الرجل وامرأته، والتي تشبه لحاء الشجرة الذي يحيط بلبها ملتصقا به، ليحميه ويتلقى عنه الأذى، ثم هو يتجدد ليبقى دائبا على وظيفته في الحماية والقرب.
ومما حفلت به نصوص هذه المجموعة أيضا هو تلك الإهداءات التي تزين عتبات أغلب النصوص والتي تعكس العلاقات الاجتماعية للشاعر مع أصدقائه، وتفاعله مع همومهم، وكذلك تصويره لما اختزنته ذاكرته لأسماء كان لها حضورها الإجتماعي والفني والإبداعي، وتصويرهم بما تجترحه ريشته من ألفة وبساطة، مستخدما بعض المفردات العامية المحملة بدلالة العميقة:
(لم تكن حمدية صالح
ماكنة تفريخ،
كانت تجمع البنات من كنف الغروب
مثل دجاجات
( بيت.. بيت.. بيت.. بيت)
فيتكاثرن من حولها.
(شوف) كيف تكسر الفستقة.
وهم يتسلون بخضرة اللب في وضح النهار،
يقول: معلم الـ (هجع)
هكذا تنمو الحكايات المريرة
وتتكاثر).
إن نصوص أمير ناصر في هذه المجموعة ترسم صورا نابضة بالحياة، ومفعمة بالعذوبة والمثيرات الجاذبة، إنها ببساطة تعكس صوتنا الذي يمور ويهتف في أعماقنا ولا يملك القدرة على الانطلاق.