الطمأنينةُ والقلقُ

ثقافة 2021/09/19
...

 محمد صابر عبيد
 
يُقالُ إنّ حصانَ المتنبي الشاعر كان اسمه «قلق» وهو ما يقصده – بحسب بعض النقاد والدارسين- في بيتٍ شعريّ له حين يقول: (عَلى قَلَقٍ كَأَنَّ الريحَ تَحتي *** أُوَجِّهُها جَنوباً أَو شَمالا)، وعلى الرغم من أنّ مفردة «قلق» قرأها مفسّرون آخرون أكثر من قراءة «بفتح اللام مرّة وبكسرها في أخرى»، غير أنّ الإحالة الأقرب هي على فكرة «القلق» بما تنطوي عليه من حيرة واضطراب وانعدام للطمأنينة والاستقرار والجدوى، وهذا بلا أدنى شكّ ديدن الشعراء الباحثين عن الحريّة في أفقٍ شاسعٍ لا حدود له ولا نهاية ولا مصير، وإذا ما كان اسم حصان المتنبي «قلق» – بحسب إحدى القراءات- فهو في هذا البيت أسرع من الريح ولا يتوانى عن اختراقه واللعب به وتسييره كيفما يشاء، مع أنّ القصيدة في الأصل هي مديح للأمير «بدر بن عمّار الأسدي» في «طبرية» ولم يحصل منه المتنبي على شيء بحسب الرواية الخاصّة بهذا الخبر، غير أنّه كعادته يروي ذاته أحياناً أكثر من ممدوحه فيعوّض نفسَهُ عن خسارة الأُعطية، بحيث يمكن معاينة هذا البيت الشعريّ وكأنّه ملخّص سيرة المتنبي الذاتيّة في بحثه المرير عن المجد.
يبدأ المرء بخطوات القلق كي يصل إلى واحة الطمأنينة في مسيرة تطول أو تقصر استناداً إلى طبيعة الحامل لهذا القلق من جهة، وإلى نوع الطرق التي ينتخبها ويسلكها لبلوغ الهدف، ولا شكّ في أنّ القلق يتفرّع إلى أنواع كثيرة وأشكال متعدّدة لا يمكن ضبطها بسهولة لتعلّقها بالجانب النفسيّ البشريّ، وإذا ما نظرنا إلى الطبيعة بِعينٍ مُستطلِعةٍ واعيةٍ سرعان ما ندركُ أنّ القلق هو أصلٌ في الأشياء وجذرٌ من جذورها المركزيّة، وهو حركة فعّالة خصبة نامية تقود صاحبَها نحو التحسّب والحَذَر والتحوّط والشكّ وعدم القبول والرضا بسهولة، على النحو الذي يجعل القرار الذي يتّخذه الإنسان القلِق في نهاية الأمر محكوماً بالواقعيّة والوضوح والصحّة، وهنا يمكننا وصف هذا النوع من القلق بالقلق «المُنتِج» الذي يتوقّف بمجرّد الوصول إلى الحقيقة المطلوبة.
يجب أن يكون للقلق حدود معقولة ومناسِبة بحيث لا يتحوّل إلى حالة مَرَضيّة تودي بصاحبها إلى ما لا يحمد عقباه، فهو قد يتحوّل إلى مرض نفسيّ خطير حين يتمكّن من الإنسان ويسيطر على أدائه الاجتماعيّ بأعلى قدرٍ من الإرباك والتشتّت والحيرة، ويحتاج في ذلك إلى طبيب نفسيّ يراقب الحالة ويدرسها ويضع العلاج المناسب لها على جلسات متعدّدة، وهذا النوع من القلق لا يقود إلى الطمأنينة بل إلى الهلاك إلا إذا عولج معالجة صحيحة وعلميّة، على العكس تماماً من نوع آخر من القلق يمكن وصفه «القلق الإبداعيّ» المصاحب للمبدعين من فنّانين وأدباء، فهو قلق إيجابيّ لا بدّ منه لإنتاج الفنّ والأدب لأنّ من غير حضوره يستحيل إنتاج الإبداع على النحو المطلوب، ليكون هذا القلق جوهراً إبداعياً خلاقاً يحرّض ميكانزمات الإبداع على ارتقاء أرفع درجات التحفّز والنشاط والتجاوز والإنتاج، إذ لا فنّ ولا أدب عالي المستوى من دون قلق إبداعيّ كثيف ومكتظّ بالأمل، يضع الأشياء كلّها في مسارها الصحيح وصولاً إلى لحظة الإبداع الخلاقة.
يمكن من هنا معاينة ثنائيّة الطمأنينة والقلق بوصفها ثنائيّة ذات أطراف متعدّدة ولا تقف عند ضديّة واحدة حاسمة، فالطمأنينة درجات مثلما هو القلق درجات، وليس ضرورةً أن يكون غير المطمئِن قلقاً أو غير القلق مطمئناً على نحو ديالكتيكيّ أكيد، بل يمكن أن يكون القلق وسيلة للحصول على الطمأنينة حين يكون المقصد واضحاً والرؤية سليمة، فعلى المرء أن يقلق أولاً ويعيش حالة القلق بطبقاتها كلّها حتى يصل بعدها إلى شاطئ الطمأنينة، فلا طمأنينة من غير المرور من نفق القلق لأنّها تحصيل حاصل وليست وضعاً منفصلاً عن تجربة الحياة بأقسى تجلّياتها، لذا لا بدّ من القلق لبلوغ الطمأنينة بوصفها نتيجة طبيعيّة ذات مسار حركيّ يقوم على ثنائيّة السبب والنتيجة.
وردت في القرآن الكريم لفظة «الجزوع» في الآية 19 من سورة المعارج «إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً»، واتّفق كثير من المفسّرين على أنّ معناها «ضجوراً أو حريصاً» بالمعنى الذي يحيل على القلق في درجة معيّنة من درجاته، ولا بدّ أنّ خلق الإنسان على هذا النحو في حالٍ أساسيّة من حالاته ينطوي على حكمة إلهيّة خاصّة، تتمثّل في أنّ الهلع إنّما هو حالة متحرّكة دائبة متموّجة مقصدها الجوهريّ هو الوصول إلى الاستقرار، والاستقرار ما هو إلا ما نصفه هنا بـ»الطمأنينة» بوصفها شعبةً من شُعب الإيمان، ولعلّ الأدب الصوفيّ هو خير مثال على حساسيّة التأرجح بين القلق والطمأنينة لبلوغ درجة خاصّة من الإيمان العالي، فالأدب من بين الفنون المعروفة هو النموذج الإبداعيّ الحرّ تمثيلاً للداخل الإنسانيّ، ويمكن على هذا النحو دراسة «سيمياء القلق» في الأدب بمختلف أجناسه وأنواعه، وقراءة فلسفة الأديب في تجربته بين مسار القلق ومسار الطمأنينة للكشف عن قيمة أدبه استناداً إلى هذه الرؤية، بحيث يتمّ الحفر داخل اللغة وتشكيلاتها السيميائيّة للوصول إلى أعماق النصوص الأدبيّة واستنطاق جواهرها الدلاليّة، باستخدام المنهج السيميائيّ النفسيّ الجامع بين النصيّة والمرجعيّات الخارج نصيّة ذات العلاقة، وتحليل البنية اللغويّة النصيّة في طبقاتها المتعدّدة من أرضيّتها المعجميّة إلى سقفها الشعريّ حيث تبلغ أعلى درجات تعبيرها وتشكيلها.