الدفاع عن الايمان الروحي في {ساحل دوفر}

ثقافة 2021/09/19
...

  محمد تركي النصار
 
نشرت قصيدة (ساحل دوفر) للشاعر ماثيو ارنولد عام 1867 في كتابه المعنون قصائد جديدة، وتتألف من اربعة مقاطع بأبيات شعرية مختلفة الطول، القصيدة هي عبارة عن مونولوج درامي يعبر عن ضياع الايمان المسيحي الحقيقي في انكلترا خلال منتصف القرن التاسع عشر في الوقت الذي استحوذ العلم على عقول الناس.
يبدأ ارنولد القصيدة باعطاء وصف للمكان الذي تحدث فيه وواضح من العنوان بأن المكان هو ساحل دوفر في بريطانيا، البحر هادئ والساحل مليء بالمياه، ضوء القمر جميل وجذاب على المضيق والقنال الانكليزي، وبالرغم من أهمية تخيل المتحدث في القصيدة في مكان محدد مثل ساحل دوفر الا ان المكان ليس مهما بحد ذاته الا بمقدار ما تمثل وتعبر عنه مفرداته وتفاصيله.
   بامكان المتحدث أن يرى عبر القنال في الجانب الفرنسي من المياه، الأضواء على الساحل تشع بشكل واضح، ثم تختفي وحيث تقف الحافات البريطانية المسننة وحدها مترامية، ويمثل الضوء الخابي بالنسبة للمتكلم، الذي هو ارنولد نفسه غياب الايمان بالنسبة للبريطانيين ولا يبدو ان أحدا من حوله يدرك جسامة انطفاء هذا الايمان وفي هذا الليل الهادئ:
البحر هادئ هذه الليلة 
المد عال، والقمر يشع على القنال
فوق الساحل الفرنسي الضوء يتلألأ ثم يخبو
حيث تقف حافات انكلترا الصخرية شاهقة في البحر الهادئ
تعالي الى النافذة ، حيث نسيم الليل العليل 
يهب مع خط الرذاذ في ملتقى البحر بالأرض المغمورة بشعاع القمر 
نرى ان المتكلم يسأل شخصا آخر أن يأتي الى النافذة ويتنفس هواء عليلا في الليل، النصف الثاني من هذا المقطع يركز على وصف أصوات الماء، اذ يلفت المتكلم انتباه حبيبته كما يبدو الى الاصوات التي تحدثها رشقات مد المياه على الساحل، اذ تنقذف هذه الامواج واحدة فوق الاخرى مطلقة زئيرا ويتكرر حدوث هذا، بينما ينسحب البحر ويعود، فيبدو هذا المشهد حزينا للراوي كما لو ان تراجع مد البحر يجلب معه نغمة الحزن الابدية، المقطع الثاني أقصر بكثير ويرتبط بالعالم الذي يكون فيه الشخصان المذكوران جزءا من صورة التاريخ الأكبر، يقول المتحدث بأنه في وقت بعيد مضى سمع سوفوكلس ايضا هذا الصوت على سواحل بحر ايجه عندما تعالى مد المياه في مشهد جلب لعقله مشاعر البؤس
البشري:
اصغي وستسمعين زئير البحر الهادر الذي تقذفه
 الأمواج الى الوراء ثم يعود هائجا مرة اخرى 
بايقاع بطيء مرتجف جالبا لحن الحزن الأبدي.
سوفوكلس سمع هذا أيضا في سواحل بحر ايجه
في زمن بعيد مضى
فجعله ذلك يتأمل مظاهر المد والجزر البشري 
ونحن أيضا نجد الفكرة ذاتها في هذا الصوت
في هذا البحر الممتد شمالا
   ويحاول ارنولد من خلال استخدام الرموز التاريخية جذب انتباه القارئ لحجم المأساة التي يعيشها العالم، وهنا تتوحد مشاعر البشر بشأن موضوع واحد في لحظتين منفصلتين من التاريخ، اذ إن صوت البحر أحدث المشاعر وردود الافعال ذاتها.
  وتشتد نبرة اليأس والاحباط ازاء حالة الخواء الروحي بتصوير مشهد البحر، متقهقرا ومتراجعا لتصوير حالة الكآبة التي تلف المشهد، والمقارنة التي عبر عنها ارنولد بمهارة بين انسحاب البحر وعودته يبدو انها صارت تميل الى التشاؤم، حيث لم تعد هناك من عودة لمد البحر كما يبدو، فالبحر الان في حالة تراجع وانسحاب:
لقد كان بحر الايمان ذات يوم في أعلى قوة مده 
وحول ضفاف هذه الأرض كان يلتف مثل نطاق متوهج
لكنني الان لا أسمع الا صوته الكئيب بزئيره المتلاشي في بداية المقطع الرابع، يتحدث  المتكلم الى حبيبته مباشرة وربما الى جميع المؤمنين الحقيقيين بالله، بأنهم لايزالون موجودين، داعيا اياهم للبقاء حقيقيين ومخلصين في علاقتهم ببعضهم في هذه الأرض الموحشة التي يسميها (أرض الأحلام) والأحلام هنا لاتعكس معنى ايجابيا بل هي النقيض لكل ماهو حقيقي، انها الأرض التي يبدو انها مليئة بمظاهر الجمال والاشياء الممتعة الجديدة، لكن ليست هذه الاشياء حقيقية، فهذا العالم الجديد الخاوي والفارغ من الايمان بحسب ارنولد هو بلا متعة ولاحب أو ضوء وسلام، فمظهره خادع ولايعكس الحقيقة المرة:
فيا حبيبتي 
دعينا نبقى أوفياء لبعضنا بعض في هذا العالم الذي يمتد أمامنا 
مثل أرض الأحلام
متنوعا جميلا، وجديدا 
لكنه في الحقيقة ليس ممتعا وبلا حب ولاجمال أو سلام، بلا يقين 
ولا لمسات تعاطف مع المعذبين
وتمثل خلاصة القصيدة نظرة متشائمة تعبر عن حال كوكبنا الأرضي، حيث يعاني البشر في أرجاء العالم، تائهين مكافحين للوصول الى غايات غامضة، ويستمر هذا الصراع مع انطفاء ضوء الايمان في قصيدة خالدة أعدها شخصيا الأوضح الهاما وتأثيرا على الشاعر  اليوت وقصيدته ذائعة الصيت (الأرض اليباب).