حضرتُ ندوة نقاشية عقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على هامش معرض بغداد الدولي للكتاب بحضور ثلاثة باحثين، ركزت على مناقشة كتاب تنظيم الدولة المكنّى داعش الذي طبع بجزأين الأول من تأليف الكاتب الفلسطيني الدكتور عزمي بشارة والثاني لمجموعة مؤلفين.
مستوى الحضور في الندوة كان نوعيّا، فقد حضرها عدد من الباحثين والمتابعين لداعش الإرهابي على المستويين الأمني والأكاديمي، استعرض الباحثون الثلاثة فكرة مجملة عن الكتاب مع الوقوف على بعض مضامينه المهمة، ولعل أهم ما ركزوا عليه هو أسباب نشوء داعش.
والملاحظ أنهم أجمعوا الى حد كبير على أن السبب السياسي يمثل سببا جوهريا لنشوء تلك الجماعة، وحاولوا تعقّب جذور التطرف الذي أدّى إلى نشوئها، فربطوه بالتطرف الكردي الذي غذته ايران لكبح جماح التطرف القومي الذي كان يمثل هاجسا للنظام الإيراني، مما جعل هذه المنطقة مفقسا للتنظيمات الإرهابية فيما بعد.
واللافت أن عددا من المتخصصين بالشأن الامني ممن حضروا الندوة كانوا معارضين لهذا الطرح إلى حد كبير، وكانت لهم مداخلات موضوعية إلا أن تسعين دقيقة من الحوار لم تفض إلى اتفاق الباحثين مع الجمهور على توصيف دقيق لاسباب نشوء ظاهرة داعش اذا جاز التعبير.
الأمر المؤسف أن كلّا من الباحثين الثلاثة والجمهور المتخصص أو المتابع الذي حضر الندوة كانوا من العراقيين الذين يفترض بهم وبعد أن اكتووا بنار هذه العصابة الإرهابية أن يكونوا الأكثر فهما لها، لكن ما حصل أن الندوة انتهت وبقي مفهوم داعش عائما في ظل تمسك الجميع بآرائهم.
هذا الموقف قد يراه البعض طبيعيا ويدخل في إطار الاختلاف بوجهات النظر، إلا إنه يؤشّر عمق الأزمة التي يعيشها العراق والمنطقة؛ فداعش ليست حدثا عابرا يحتمل الاختلاف في تفسيره بل هو ظاهرة خطيرة ضربت العراق والمنطقة وتركت آثاراً كارثية على كافة المستويات، الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية والأمنية، وخلّفت عشرات الآلاف من الشهداء واضعافهم من الجرحى والأرامل والأيتام والمشردين، استباحت الأعراض واستعبدت الناس بغير وجه حق، هذه الحالة الخطيرة التي عاشها العراقيون يجب أن تحدد أسبابها بدقة كمقدمة منطقية لمعالجتها، ومالم يتحقق هذا الشرط فإن أية حلول ستبقى قاصرة، بل يمكن أن تتسبب بتفاقمها في بعض الأحيان.
وعلى الرغم من ذلك كله لا أعتقد أن فهم أسباب ظاهرة داعش يحتاج إلى عقل جبّار أو خارق للعادة بقدر حاجته الى ضمير منصف وموضوعي يستطيع أن يطلق قناعاته من دون أن يحسب حسابا لهذه الجهة أو تلك، فهي ببساطة نموذج متطوّر لفكر اسلامي منحرف حاولت تطويع النصوص لتبرير سلوكيات إجرامية، تمتد جذورها إلى الفكر السلفي الوهابي الذي نشأ وترعرع في السعودية لينتشر بعد ذلك في دول أخرى، استفادت من مصالح بعض الدول في توسيع نطاق وجودها وتوحشها، اتخذت من العراق وسوريا ساحة لنشاطاتها الإجرامية، ويمكن ايجاز أهم الأسباب التي أدت إلى ظهورها في العراق وسيطرتها على عدد من مدنه بالآتي:
1. ضعف إدارة الملف الأمني خصوصا في محافظات نينوى والانبار وصلاح الدين وديالى.
2. الاخطاء السياسية لحكومة المركز، والتي كانت ناتجة عن سوء تقدير لحالة بعض المناطق العراقية التي تشعر بالاقصاء والتهميش.
3. وجود الحواضن الشعبية التي وفرت الملاذ الآمن لتلك الجماعات خصوصا أنها كانت تدعي الثأر لأهل السنة من أعدائهم.
4. الأموال الطائلة التي ضخّتها بعض دول الخليج لدعم تلك الجماعة بهدف إبقاء العراق غارقا في حالة الفوضى.
5. حداثة تجربة التغيير السياسي في العراق، خصوصا أنه كان محكوما بنظام شمولي متسلط لا يقيم وزنا للانسان إلا بقدر ولائه لرأس النظام.
6. الفساد المالي والإداري خصوصا في المؤسستين العسكرية والامنية، والذي كان سببا جوهريا لانهيار الوضع الأمني في 9 حزيران 2014.
7. حالة التنافس بين قطبي القوة في العالم المتمثلين بالولايات المتحدة وروسيا، والتي أفرزت معسكرين متنافسين في المنطقة.
هذه الأسباب وغيرها مكّنت الجماعات الإرهابية من التنمر في المنطقة خصوصا بعد استيلائها على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية والسورية واستحواذها على ثروات البلدين وتمكنها من تصدير النفط والحصول على عوائد مالية كبيرة.
وعلى الرغم من النصر العسكري الكبير الذي حققه العراقيون على هذه العصابات الإرهابية إلا إني اعتقد انه سيبقى نصراً منقوصا ما لم يلحقه نصر أمني قائم على التعامل مع الفكر التكفيري والاقصائي الذي كانت داعش ولا تزال تعمل على نشره في المناطق التي تتواجد فيها، هذا الفكر هو الذي وفّر لها الحواضن الشعبية والمقاتلين والتمويل والتسليح، وهو الذي مكّنها من السيطرة على ثلث مساحة العراق.
وان مواجهة هذا الفكر تتطلب بالدرجة الاساس جهودا استثنائية، وقرارات حازمة يمكن من خلالها تجسير العلاقة مع المواطن وجعله يشعر بالانتماء لبلده ويرفض أية محاولة للمساس بأمنه.