آلهة قلب الظلام

ثقافة 2021/09/20
...

 صلاح حسن الموسوي
 
منح الفيلم الأميركي الشهير (سفر الرؤية الآن) المنتج عام 1979، دعما قويا ورواجا عالميا لرواية (قلب الظلام) للروائي الانكليزي ذي الأصول البولندية (جوزيف كونراد)، فالفيلم استقى فكرته الرئيسة من الرواية القصيرة التي كتبها كونراد عام 1899 وبأسلوب ادبي مبتكر، مثل علامة في تاريخ السرد القصصي الحديث، ويقع الفارق الرئيس بين الفيلم والرواية باختلاف المكان، حيث كانت ادغال افريقيا هي المكان الذي حكى فيه كونراد عن قصة المغامر الأستعماري البلجيكي كورتز الموظف في شركة اوربية لتجارة العاج تعمل في ادغال اقصى نهر الكونغو، والذي نظم علاقة مثيرة مع الأفارقة المحليين، اما الفيلم الذي اخرجه الشهير فرانسيس كوبولا، فأتخذ من فيتنام المحتلة من الولايات المتحدة ساحة لأحداث الحرب الدامية، وبطل الفيلم هو الضابط الأميركي كورتز الذي انشأ محمية منعزلة في غابة منحدرة داخل ارض العدو, ليحكم رجال القبائل المحلية كجيش خاص يدين بالولاء له. والثيمة المركزية المشتركة لكل من الرواية والفيلم هو تطور العلاقة بين البطل كورتز والسكان المحليين المستعمرين، الى علاقة دينية غريية يتحول فيها البطل الى اله يدين له السكان بالطاعة والعبادة، وهذا ما يسترجع كلمة البحار البرتغالي فاسكودي غاما حين وصل الى الهند سنة 1498 واعلانه عن سبب القدوم للبحث عن المسيحين والتوابل، في اشارة الى الحلف غير المقدس بين قوى الفتح الكولو نيالي وفرق التبشير بالمسيحية، كذلك اسم الفيلم المقتبس من الرواية (سفر الرؤيا الان) يعد تعبيرا صريحا عن سفر الرؤيا للقديس يوحنا في العهد الجديد، وهي تشير الى الرؤيا التي تكشف احداث المستقبل، وتتضمن المشاهد القيامية المهولة .
يرد في احدى نصوص رواية قلب الظلام (ان فتح الأرض الذي غالبا مايعني انتزاعها من اولئك الذين لهم بشرة مختلفة عن بشرتنا او انوف اكثر تسطيحا بقليل من انوفنا، ليس عملا جميلا حين نتأمله بأمعان، وليس ثمة ما يشفع له ويمنحه الخلاص سوى الفكرة ذاتها، فكرة كامنة وراءه، لا ذريعة عاطفية بل فكرة، وايمان لا تشوبه الأنانية بالفكرة التي هي شيء بوسعك أن تقيمه نصبا، وتنحني امامه مبجلا وتقدم له القرابين). 
الفكرة التي يعنيها كونراد في روايته، لا تنفصل عن سيل الأفكار الحديثة التي سيطرت على اوروبا وملأت روح الأنسان الأوروبي بشغف المعرفة والتوسع في ارجاء قارات العالم القديم والجديد ومنح ما سماه ادوارد سعيد (سرد الأمبراطورية)، الكثير من عناصر الاكتشاف والاثارة والحبكة السردية، ومع اعجاب سعيد بأدب كونراد، الا أن صاحب كتا بالاستشراق وضع في كتابه اللاحق (الثقافة والأمبريالية)، جوزيف كونراد كواحد من حراس سجل المحفوظات الأمبريالي، حيث يقول سعيد (فما لدينا في قلب الظلام هو عمل ذو تأثير ضخم، اذ انه قد استفز العديد من القراءات والصور - هو افريقيا مسيسّة ومشّبعة عقائديا كانت لنوايا واغراض المكان المؤبرط (من الأمبراطورية) بكل تلك المصالح والأفكار الفاعلة فيها بشراسة لا مجرد انعكاس تصويري (فو توغرافي) لأدب افريقيا.
من أين استوحى كونراد فكرة تحول المستعمر الى اله لدى المستعمر، هل هي محاكاة لمقولة هيجل (التراكم الكمي، يصنع تطور نوعي)، ولكن اشد التراكمات في الرواية هي لمشاهد القمع والعنصرية ورؤوس الأفارقة المقطوعة التي جمعها كورتز بحبل طويل خارج بناية عمله، اومشاهد القصف والقتل في القرى الفيتنامية والتي كانت تبدأ بعد انتهاء عزف مقطوعة (فاجنر) الموسيقية، والتي كانت تبث من الطائرة الأميركية المروحية والمسلحة، وكيف يتماهى المستعمر مع المستعمر الى حد التأليه، هل هو الأعجاب الشديد بالمستعمر، أو المستوى الحاد من اليدائية والتخلف للعقلية، التي لاتتوازن إلا مع الأسطرة المتطرفة للحوادث والميل لتأليه الشخوص، كما يحصل حاليا في شعوب وبلدان عديدة بحثا عن التوازن النفسي الجمعي في أجواء مواجهة الجور الشديد او الجوائح المهلكة، وقد شاع مؤخرا في الطب المفسي ما سمي (متلازمة ستوكهول) هي ظاهرة نفسية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع عدوه أو مَن أساء إليه بشكل من الأشكال، أو يُظهر بعض علامات الولاء له مثل أن يتعاطف المُختَطَف مع المُختَطِف. وتسمى أيضاً برابطة الأَسْر أو الخطف وقد اشتهرت في العام 1973 حيث تُظهر فيها الرهينة أو الأسيرة التعاطف والانسجام والمشاعر الإيجابية تجاه الخاطف أو الآسر، تصل لدرجة الدفاع عنه والتضامن معه. هذه المشاعر تعد بشكل عام غَيْرَ منطقية ولا عقلانية في ضوء الخطر والمجازفة اللتين تتحملهما الضحية، إذ إن الضحية تفهم بشكل خاطئ عدم الإساءة من قبل المعتدي إحساناً ورحمة.