الشعر يُعيد اليومي لأسطورته

ثقافة 2021/09/21
...

   ناجح المعموري
 
عرفنا بشكل جيد طاقة التناص بين الشعر العراقي والأسطورة. وكثيراً ما أكدت بكثير من كتبي الصادرة في بيروت ودمشق وعمان واللاذقية وأربيل، بأن الأسطورة حاضرة ، بمعنى استمرار وجودها، لأنها متجاورة مع العقائد والطقوس هي قائمة وباقية للأبد. لكن هذا لا يعني بأنها ــ الأسطورة ــ تختار الزمن الذي تريد الظهور به، والصعود من أعماق الذاكرة، الخاصة بالفرد او الجماعة. استعادة حضورها القصدي، مرتبط بحدث او واقعة يومية، ودائماً ما تكون مألوفة، ومعروفة.. فخزان الذاكرة يتسع كثيراً للأساطير، يتوارثها الأفراد عن الأباء والجدود ويستعيدون حضورها في وقت تختاره هي، لتعيد ابتكارها من جديد، لضرورات الأنا/ الذات/ من اجل ترصين الهوية تعبر القصدية عن طاقة اللامعقول وقوة الغرائبي، وهذا امر مهم للغاية، فالحاضر متسع، مفتوح وتبرز أكثر فأكثر صفاته هذه حتى يتخيل البعض بأن معاودة الأسطورة لحضورها القصدي هو نوع من أنواع التخيلات. 
الأسطورة تخيّل، والشعر تخيّل ومن هنا تماثل المجاورة وتحقق التمثيل بين اليومي الجديد، المألوف وسط وقائع كبرى، تتحول فيها وحدات سردية الى أساطير، تشف الذاكرة عنها وهي صاعدة فوق السطح، ما هو الغرائبي الذي استعاد الموروث/ اللامعقول، ولماذا تحقق ذلك في هذه او تلك اللحظة التاريخية، حتى تمسك ما يريد الاعلان عنه، والفوز به مرة اخرى، لكن في احيان يكون المكشوف مختلفاً بمعناه، ومغايراً بدلالته. 
يمنحنا اليومي المألوف والمتكرر اساطير القيمة المشحونة بالتراكم والتراتب، لأنها الاسطورة خزنة مفتوحة طوال تاريخ لا نتمكن من تحديده بدايته ونهايته. فالأسطورة كل ما هو مفاجئ ومختلف عن الذي حصل ووقع في فترة ما، رآه أحد أم لا تراه الجماعة ليس هذا هو المهم، بل الجوهري هو التحقق، حصول المألوف والمؤشر على الكامن فيه من غرائب واسطوريات، بعيدة عن شعور الكامن، لأنني اتحدث عن المألوف/ الاسطورة القيمية، التي تظل باقية، حاضرة بقوتها.
ما حصل في نص الشاعر خارج الشكل المرجعي بل حدثت وكأنها جزء جوهري من المرجع اليومي، لذا لحظة تحقق الاسطورة لم يكن رمزاً، بل يمثل حدثاً، ومألوفاً، كثيراً ما يتحقق وتراه الافراد والجماعات، لكن الصورة الاولى التي سجلها الفرد لم تكن ذات قوة جاذبة، مثيرة للتراجيديا، بل دائماً ما تتضح وكأنها متكررة، وتقترن مع وقائع مماثلة بالنتيجة التي هي هنا -الأسطورة- والدال حاضر والدلالة كاشفة عن قيمتها وأفكارها، ومن ثم تتكون من جديد علاقة حسب ترسيمات بارت. 
"عبرة يوسف" نص مرثية فجائعي، تتباين حدة التراجيديا فيه ارتباط بزمن الواقعة/ الاسطورة وهي تقع كالهول على الفرد، يوسف لاذ بصديقه وتخلص من اختناقاته المتفجرة عبرات قوية "تكسرت فيها الحروف/ على صخرة الآس/ راح ابو حيدر/ ..
الآن سنستعيد الاسطورة التاريخية/ الدينية واتعامل معها باعتبارها عمقاً ميثولوجيا توارثه الأفراد واستعاده يوسف. من هو يوسف؟، فالأسطورة لن تكون معزولة عنه. حتى هو لا يكون حضوراً مشحوناً بالفجيعة والتكرر.
صعد يوسف وعبرته الينا، من خلال صوت الشاعر المبلغ بحصول الاسطورة، التي رحل بها ابراهيم ليست القصدية ذات حضور، يتمتع ببلاغة، بل دائماً ما يكون الاستدعاء اعتباطيا او عبر متجاورات ومتماثلات؛ لذا دائماً ما تتكسر انضباطات العناصر البنائية للأسطورة، لا بل تنحرف بحركتها التوظيفية كتناص في النص الشعري، وهذا ما اتضح بشكل بين في النص الذي لا تقوى ان ندفع به سريعاً نحو قصدية استثمار الاسطورة. 
لكن مبثوثاتها موجودة مثل يوسف/ ابراهيم/ القمر، تتشابك هذه المسميات الثلاثة وسط النص وتعقد شليلة دلالية، متداخلة، غير مطلوب منها الوضوح او النسقية المتدرجة، او المتجاورة، بل هي تفضي لمعانٍ رمزية، مجازية، تومئ للأسطورة، فيها سومري، توراتي، وصحراوي. 
وهي رموز ذات حضور قوي، يتمتع بهيكلة قوية، صاغها التراتب، واحيانا المقلوب، ومثل هذه الخاصية لا تعني الانقلاب الذي سيتحكم بالنص، من خلال التتالي، بل لا بد للقراءة من ان تلتقط النسق الثقافي، وتتعامل معه باعتباره طاقة ذات معرفة. 
والذي يقود كل الاساطير والعقائد والطقوس، لتذهب مسرعة نحو النسق الثقافي والفني، وهذا هو الذي يفضي اليه النص وعلينا التركيز وبانتباه للدور المركزي الذي تلعبه الاسطورة، وتنهض به الوحدات الصغيرة التي تهيكلت مع بعضها وكونت لنا نسقاً مكوناً الدين، المنتظر هو الثقافي والفني، لذا اعتقد بأن نص الشاعر وباعتباطية وظف الحاضر في مرجعية النص الاجتماعية. 
والشعر بمنصته الاخيرة لا يتعامل مع المرجع الاجتماعي باعتباره خالياً من التأثير. لكن الشعر العميق في لحظة كتابته لا يحوز على المرجع، بل يستقوي بحوافز فاعلة. هي الطاقة التي احتفظ بها الماضي، واعني بالطاقة المتراكم الثقافي والفني بوصفهما نسقين يمثلان المقدس كما قال غيرتس. وللماضي قوته وتجوهره العميق اذا توفرت له الامكانات الثقافية القادرة والعارفة بمسالك النبش فيه، واستلال ما يحتاجه النص. 
وهذا ما تعرفنا عليه في نص الشاعر المرثية المتجاورة مع التراث المتراكم من أدب المراثي الذي عرفته الحضارة العراقية وحصراً في سومر وبابل، لذا وعلى الرغم من البون الشاسع بين المرحلتين، لكننا لا نقوى على تجاوز عتبات المراثي لأني وانا استمع للنص اول مرة التقطت بروقا عميقة تومئ لتجوهرات الماضي. فالتداخل بين الحضور الاسطوري للأسماء وغيابها. الان تبرز امامنا حضورات العقائد والطقوس المقترنة مع كل اسم من تلك الاسماء. 
والمثير في هذه النصوص الازاحة القوية والشعرية التي ارتفعت حضوراً مضاداً للموت. يوسف/ ابراهيم. الارض/ القمر.. ومعها اسماء اخرى لأن الفحص والتحصيل يقود القراءة نحو اكتشافات ذات دلالة مثبتة ومثلما دخل القمر رمزاً قوياً، مقترناً بالأم الكبرى/ الانثى، استعادت هذه الرمزية كل ما تنطوي عليه من شعرية وأعني بذلك بالأرض. اهم الرموز التي كرستها الفلسفة في التحليل النفسي وايضا فلسفة العلم لدى باشلار.
يوسف هو الباث للوحدة السردية الصغرى، لكنها احتوت كل فجيعته واختارت التخيلات الشعرية ان يكون الناقل هو مركز الميثولوجيا، لكن طاقته طرية، لأنه يومئ لاهم اسطورة في الديانات التوحيدية، وامتازت بتعدد قراءات وتنوع فضاءات، لعل اهمها هو ثنائية الحياة/ الموت، لكن يوسف النص يحيل ليوسف الاسطورة ولا نستطيع تجاهل شفافية التناص بين الماضي والحاضر، وتأثير ابتداء نص "عبرة يوسف" التي لم تكن له في الاسطورة، بل للاب، والتناص والتخيل حر في الحضور الشعري، للاب له وظائف تصعيدية لم يشر لها أوله - الاب - الشاعر لأنه في مثل هذا التحقق اعادة سرد من جديد، بينما هو يريد كتابة التراجيديا من خلال
 الاسطورة.
وفعلاً استطاع الشاعر من تحويل يوسف الى حضور جوهري ارتبط بالواقعة، لا لأنه الباث الاول، بل لأنه الممتد بسردية النص وله حضور ورمزية، كلما تصاعد السرد في النص أشعر كقارئ بدور اكثر حركة ليوسف.
الملاحظة الاخرى التي كشف عن دور الماضي وحيوية الاب عبر الابن، وقوة الحد بتجاوره مع الاب واعني بذلك شخصية ابراهيم الممتدة وبعمق التاريخ والمتكتلة بالغرابة والاستثناء، على الرغم من الاشكالات التي تنطوي عليه هذه الشخصية.