المهم المهمل

ثقافة 2021/09/21
...

 د. كريم حواس
  
عندما يرادف معنى أو تصور سيء لعبارة أو كلمة ما في تداولاتنا اليومية بغض النظر عن مرجعياتها، سواء كانت ثقافية أو دينية «والامثلة كثيرة في هذا المعنى كما هو الحال في تصوراتنا عن مسميات مناطق معينة اتسمت بمهنة او سلوك او صفة ما وبقيت تلك الصفة ترافقها حتى وأن اندثرت معالمها وسلوكها، وكذلك الحال لبعض المهن». حينها يكون من الصعب على المرء أو المجتمع تحريرها من هذه الصفة او على الأقل تحتاج إلى زمن ليس بقليل للتحرر منها.
 ربما قادتني تلك المشابهة إلى موضوع في غاية الاهمية تربوياً وعلمياً وثقافياً ألا وهو التربية الفنية. ذلك المقرر الدراسي المهم المهمل الذي يدرس على مدار اثني عشر عاماً من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الجامعية من حياة الفرد، ناهيك عن بعض الأنشطة اللاصفية في المرحلة الجامعية.
 هذه المادة الدراسية التي تحملت وزر وجهتي النظر الفقهية والثقافية، ولم يلتفت اليها أي من المهتمين بالشأن التربوي والثقافي على حد سواء برغم الصراع الدائم بين الحاجة الحقيقية لدورها في تشكيل الذائقة الفنية لدى الفرد وتنمية مهاراته وقدراته، فضلا عن دورها التكاملي في تحقيق الشخصية المتزنة انفعالياً لبعض المراحل العمرية وبخاصة مرحلة الطفولة. فضلا عن التعبير عن مكامن الذات والنفس والشعور بحرية التعبير والتفكير والتأمل والملاحظة والخلق وغرس روح الابتكار والخيال، وربما يذهب بعض العلماء والمفكرين إلى أن الخيال أهم من المعرفة ذاتها، ويعدون المعرفة محدودة والخيال أكثر سعة وشمولا منها، ومن ثم تلك المادة قد تقود الفرد الى النتاج الإبداعي والمبتكر والفكرة الأصيلة، سواء في مجال التطوير والتحسين أو في مجالات متنوعة أخرى.
إن ارتباط الفنون بالإنسان قد رافق مسيرته منذ الخلق الأول وبشكل وثيق الصلة حتى قبل أن يتعلم اللغة والكتابة، فقد عبر عن مخاوفه وأفكاره في رسومه الأولى في الكهوف وارتبط الفن بطقوسه وسحره ومعتقداته، ومازالت الفنون إلى يومنا هذا بشتى فروعها واتجاهاتها وثيقة الصلة بالإنسان، وإن لم يلتفت أو يتنبه اليها بقصد أو غير قصد برغم دخول الفن في صميم الحياة الاجتماعية والصناعية المتطورة منها أو الشعبية، كما يذهب الكثير إلى الرأي بأن الفن عمل اجتماعي يتخطى حدود المهنة والحرفة المحدودة، فالوظيفة الاجتماعية تارة تتجسد في تناول قضية مجتمعية في عمل فني «مسرحي/ تمثيلي» وتارة في منجز بصري تشكيلي معبر لتجسيد فكرة أو حدث ما، كما هو الحال في لوحة «الجورنيكا Guernica» تلك اللوحة الجدارية للفنان بابلو بيكاسو التي وثقت مأساة الحرب والمعاناة والوحشية التي تسببها للإنسان، وقد صارت وثيقة تاريخية ومعلما فنيا مهماً وذاكرة بصرية دائمة لمآسي الحروب، فضلاً عن كونها رمزاً لرفض فكرة الحرب وتجسيد السلام، وطافت تلك اللوحة جولة عالمية لتستقر في اهم مركز عالمي للأمم المتحدة لتسهم في لفت انظار العالم للحرب الأهلية الاسبانية، والحديث عن تلك الاهمية التي يكتسبها المتعلم/ الفرد خلال هذه المادة الدراسية قد يطول.
   وبرغم التطور العلمي والانفتاح الثقافي والاطلاع على تجارب الدول المتقدمة ومقدار اهتمامها بالفنون والتربية الفنية بخاصة لجميع مراحل التربية والتعليم. نجد أنفسنا أمام مشكلة أكثر تعقيداً من مشكلة التخلص من وجهتي النظر (الفقهية والثقافية)، وهي أن تكون في زاوية حرجة ما بين الاهتمام بالجانب الفني التأملي الذاتي وما بين الايفاء بمتطلبات المقررات الدراسية الأخرى بوصفها محددات المستقبل. وهنا حتماً تكون الغلبة للخيار الثاني ونحن بلا شك ايضاً سنسهم في ديمومة هذا الاهمال لهذا الجانب المهم في حياتنا وحياة أبنائنا.