مع وقوفه مخاطبا جنوده في السابع عشر من تشرين الأول من العام الماضي، أعلن الرئيس الفلبيني “رودريغو دوتيرتي” تحرير مدينة ماراوي من براثن الارهاب. وقد تطلّب الأمر خمسة أشهر، ابتداء بهجوم فاشل على المسلحين الذين أعلنوا ولاءهم لما يسمى “الدولة الاسلامية”، وتتوّج بحرب شاملة على الجزيرة الجنوب شرق آسيوية.
لكن ما حصل هو ابادة أحد العوارض المؤقتة فقط، ليس إلا.
بالنسبة للفلبين، استلزم الحال استخدام المدفعية الثقيلة والضربات الجوية، وعمليات تمشيطية بالطائرات العمودية، والتقدم البطيء على امتداد خط جبهة ماراوي؛ خلال الوقت نفسه الذي كان يحصل فيه حصار مماثل لعاصمة “داعش” السابقة؛ مدينة الرقة السورية. بيد أنه يبرز كدليل متزايد على انتشار حركات اسلاموية متشددة مستوحاة من الأيديولوجيات المتطرفة مغطية منطقة جنوب شرق آسيا. أحد أهم المؤثرات لتلك الحركات هي الافكار السلفية، بوصفها الشكل المتزمّت من الاسلام السني الذي يسعى لاعادة العقيدة الدينية الى تفسير التعاليم الأولى وفق زمن الرسول محمّد، متلقية الدعم من دول الخليج، مثل السعودية؛ مع ملاحظة أن السلاح لوحده لن يكسب المعركة ضد هذه الأيديولوجيات.
ويشير ظهور تنظيم تابع لداعش في الفلبين الى تأثير متنام لهذه النزعة من التدين المتزمت، وبنسخ محلية لدى كل من اندونيسيا وماليزيا وماينمار، وحتى دول مثل كمبوديا، بحسب ما يقوله خبراء وناشطون مسلمون قريبون من تلك المناطق. وتجد الأقليات، وحتى الشيعة المسلمون، أنفسهم هدفا لتلك الحركات، ساعية لتخريب التعايش المنسجم نسبيا بين البوذيين والمسيحيين والمسلمين الذي كان موجودا طيلة عقود في جنوب شرق آسيا، فيما يتعرّض للخطر حاليا بسبب ذلك الاستهداف. فالمزيد من الأشكال الجامدة والطائفية من التفسيرات الدينية، والتي لم تكن موجودة تأريخيا في آسيا، يتم الترويج لها من قبل المقربين من الفكر الداعشي، من خلال المنح الدراسية والأعمال الخيرية، ومن المرجح انها ستقود الى انقسامات اضافية بين المجتمعات، مثيرة عدم رضا المجتمع المتحرر، وموفرة بشكل محتمل متطوّعين جدد لدى مكان حديث ضمن خارطة التطرّف العالمية.
ولاء جديد
ويقول أحمد فاروق موسى، مدير مؤسسة جبهة النهضة الاسلامية لتقديم النصح ومقرها ماليزيا: “صار هذا المجتمع أكثر تزمّتا في طريقه فهمه للدين الاسلامي.” وبطبيعة الحال، لا يمثل المتمردون المسلمون شيئا جديدا للمنطقة، فهناك ما حصل جنوب تايلاند وأزمة الروهينجا الأخيرة في ماينمار وكلها ترفع مستوى تعاطف مع الضطهدين دينيا كالروهينجا وغيرهم؛ لكن هذه الأمثلة شخصت عادة كونها نابعة من حركات انفصالية تطالب بالاستقلال، وخصوصا التمرد الطويل الأمد جنوبي الفلبين الذسن تقوده حركة تحرير اقليم “مورو” المسلم. لكن الجديد في الأمر هو اعلان بعض الجماعات الولاء لما يسمى “الخليفة المزعوم” الموجود على بعد آلاف الكيلومترات؛ شرق سوريا.
جذور المشكلة متباينة عبر البلدان، على الرغم من تشابهها؛ ففي أندونيسيا، كانت السعودية قد أنفقت أموالها بشكل مباشر منذ ستينيات القرن الماضي على المؤسسات الخيرية والمؤسسات المعنية باعتناق عقيدة جديدة، بحسبما تقول “كريثيكا فاراغور”، الكاتبة المقيمة في جاكارتا والمتخصصة بشؤون السلفية جنوب شرق آسيا. وتم انفاق هذه الأموال على تشييد المساجد، وتمويل الوعاظ، وتنفيذ نشاطات دعوتية، ناهيك عن دعم منح دراسية سخية وبناء نظام جامعي مجاني، ومبناه الرئيس هو معهد العلوم الاسلامية والعربية وسط
جاكارتا.
وحصل تجاوب مع هذا النوع من الاستثمارات، حيث ترى كريثيكا تناميا محددا فيما يخص عدم التسامح الديني مع الأقليات، وقوانين أخرى مستوحاة من الشريعة الاسلامية، مؤكدة حصول تآكل للتقاليد الاسلامية المحلية: “عملت الاستثمارات السعودية بشكل دائم على تغيير وجه الاسلام الاندونيسي من خلال جعله أكثر تحفظا وتعصبا وقليل
التسامح.”
ويرى موسى ان التغييرات الحاصلة داخل ماليزيا مصدرها الطلاب العائدون من السعودية بعد اكمالهم لدراستهم: “لقد جلبوا معهم التوجهات الطائفية.” إبان ثمانينيات القرن الماضي، يتذكر موسى دعم مسلمي ماليزيا الكبير للثورة الايرانية، أما الآن، فهو يسمع شجبا للشيعة كل يوم جمعة من قبل شيوخ المساجد الذين يقرؤون نصوصا موحدة تفرضها الحكومة عند الصلاة.
محاولات تخريبية
ويقدر موسى وجود مئات المسؤولين الكبار العاملين لدى الحكومة الماليزية الذين كانوا قد درسوا في السعودية، أو تأثروا بشدة بالتعاليم السلفية الصارمة، ويعتقد ان تأثيرهم ينشر نوعا مثيرا للخلاف من الدين الاسلامي موجود على نحو أكثر وضوحا في الشرق الأوسط: “هذا الموقف سيعمل على تمزيق المجتمع.” وحتى في كمبوديا (غير مسلمة)، أنفقت دول الخليج المال المرتبط عادة بقروض التنمية، فعلى سبيل المثال، قدمت الكويت قرضا بقيمة 546 مليون دولار سنة 2008، غالبيته للطاقة والزراعة، وبضمنه خمسة ملايين دولار لمساجد ومدارس اسلامية جديدة.
وتتفاعل جهود لمواجهة الطائفية ضمن المجتمعات المسلمة بمنطقة جنوب شرق آسيا، فالمجاميع من أمثال جبهة النهضة الاسلامية لديها مهمة صريحة لدعم المزيد من “التفاهم بين الثقافات”، و”شمول الدولة الماليزية فقط” من خلال الوصول الى المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.
يقول موسى: “لا بد أن تكون هناك رواية مضادة، وأنا أؤمن بهذه الحالة؛ ولا بد أن يكون هناك طريق للاعتدال.” وتستعد مجاميع أخرى مشابهة لمؤسسة موسى لمساعدة سكان تلك الدول على الاعتدال، مثل شبكة اندونيسيا للاسلام التحرري، ومركز الفلبين للاسلام والديمقراطية،
وغيرهما.
وليست لدى غالبية السلفيين ميول سياسية تشبه عمل داعش، فهم يطيعون القوانين حيث يسكنون، ويتفرغون لمزاولة شعائرهم بخصوصية، بحسب فاراغور.
لكن الخطر ما زال باقيا من توسع التهديدات بسبب أنواع مستوردة من الاسلام وسط متباينات معتدلة بشكل تقليدي ضمن منطقة جنوب شرق آسيا؛ وبامكان هذا الخطر ابتلاع تجمعات سكنية بأكملها، كما حصل مع
الفلبين.
ويبدو ما تبقى من مدينة ماراوي أشبه ببلدة سورية سقطت من السماء وهبطت على غابة مورقة تطل على ساحل بحيرة، فالمحال التجارية البرّاقة الألوان والمنازل المطلية بالألوان الفاتحة الاستوائية يلطخها سواد الحرائق والانفجارات. وربما أعلن ديتروتي النصر، لكن دخان المعارك لا يزال يملأ أجواء المدينة، مذكرا بمشكلة تواجهها منطقة بأكملها.