الأربعون الحزينة

فلكلور 2021/09/23
...

 باسم عبد الحميد حمودي
للحزن تاريخٌ متصلٌ لدينا, نتعايش معه دوماً؛ لأننا نعيش مع تاريخ حياتي وعياني من الأحداث والأحزان.
في شهر أيار من العام 1957 كتبتُ في مجلة (الأديب) البيروتيَّة مقالة عن التراث الشعبي في العراق وأشرت الى مجموعة من معالمه، مؤكداً  طقوس الأداء الزاخر بالإيمان في المسرح الشعبي الارتجالي المتمثل بـ»التشابيه» التي تمثل واقعة الطف, ثم الاستذكار الموسمي للواقعة عبر المجالس اليوميَّة.
وإذا كان موسم الحزن الحسيني السنوي يستمر عادة في العراق أربعين يوماً, لكنَّ الحقيقي أنَّ طقوس هذا الحزن تبدأ وتستمر قبل الموعد وبعده.
أربعون يوماً حتى الوصول الى يوم (مرد الرؤوس) أي يوم عودة رأس الحسين الشهيد وأنصاره الى أرض الطف برعاية السيدة العقيلة زينب بنت علي بن ابي طالب «ع» وحمايتها حتى ساعة الدفن المهيبة.
تبدأ طقوس استذكار ثورة الحسين الشهيد قبل العاشر من محرم, (وهو يوم المقاومة والثورة العمليَّة على الظلم اليزيدي ورموزه) بتسعة أيام, وتستمر بعد يوم الدفن (الأربعين) عملياً.
قبل هذا.. تجد الجوامع والحسينيات في جنوب العراق ووسطه قد وضعت صناديق صغيرة للتبرع للمواكب التي ستسير الى كربلاء الحزن, وأنت تجد خلال النهار ومنذ بواكير الصباح رجالاً يدورون بين المقاهي والأسواق وبيدهم أكياسٌ صغيرة لجمع النقود من جلاس المقاهي أو أصحاب الدكاكين.
كانت (الأموال) اليوميَّة المُتبرَّعُ بها في كل بلدة في ثلاثينيات حتى سبعينيات القرن الماضي تتألف من العملات الفضيَّة والنيكليَّة من درهم وريال (قيمته أربعة دراهم) ودينار, ثم تطور الأمر الى العملة الورقيَّة بكل أشكالها.
اللجنة الشعبيَّة التي تجمع هذه الأموال في كل بلدة تقومُ بالصرف على الحسينيات المشيدة في كربلاء وأطرافها الخاصَّة بكل مدينة وتأجير السيارات للسفر الى المدينة المقدَّسة والصرف على استراحات الطريق الكثيرة وتوفير الطعام للزوار في حلهم وترحالهم.
من ذلك يبدو أنَّ طقوس الحزن الحسيني السنويَّة ليست بكاءً فقط, بل تحضير مجتمع العمل من أجل إثراء هذه الطقوس وتطوير العمل داخلها.
لا بُدَّ من قراء مهرة يقومون بإحياء مجالس العزاء, ولا بُدَّ من (رواديد) قادرين بقصائدهم على إدامة الوعي بهذه الأحزان وتصويرها بقصائدهم ومقطوعاتهم الشعريَّة, ولذلك انتشرت بين الشعراء في كل موسم المنافسة على قول أفضل ما لديهم وترديده في المجالس بأصواتهم, أو بأصوات الخطباء, و(الرواديد).. والرادود شخص ذو صوتٍ مميزٍ يستطيع تطويع طبقات صوته في إنشاد القصائد التي تروي مأساة الإمام الشهيد ورجال ثورته المليئة بالعبر, تتنافس المجالس الحسينيَّة في كل موكب ومدينة لاختيار الأفضل بين المؤدين في هذه المجالس لضمان الحصول على عددٍ أكبر من السامعين والمشاركين في هذه المواكب والمجالس التي تسمى أحياناً (القرايات)، وهي لفظة شعبية أتت من القراءة داخل الموكب وتعني الإنشاد فيه.
ويتجنب حاضرو المواكب والمجالس القول بـ(الإنشاد) لأنَّهم يرون أنَّ المجلس أو الموكب لا تصح فيه كلمة الإنشاد، بل الأداء الديني للقصائد التي تصور معركة الطف الخالدة وما سبقها وتلاها من أحداثٍ تاريخيَّة.
وتقسم هذه المجالس الحسينيَّة الليالي العشر الأولى حتى يوم عاشوراء (وهو العاشر)، الى ليالٍ خاصة بكل شخصيَّة من شخصيات الشهداء الميامين الذين استشهدوا مع الإمام الحسين عليه السلام، فيوم للقاسم بن الحسن (عليهما السلام) وتفاصيل عرسه على سكينة ثم استشهاده, ويوم للطفل عبد الله الرضيع وأمه. وهكذا.
هم بهذا يضمنون تنوع الأحداث والأداء داخل أحداث الواقعة الكبرى, وهذه تقع صباح اليوم العاشر من محرم الحرام، إذ تتم المواجهة الدامية الكبرى بين البطولة الأسطوريَّة الخالدة للإمام الشهيد وقادة البغي من جيش الشام وصحبهم, يتم خلالها مشهد حرق خيم آل الحسين وصحبه وتسيير السبايا من نساء وأطفال الى حيث حاكم الشام، ومباهلة زينب الكبرى له على جريمته حتى أبكته مرائياً ليأمر بعودة رؤوس الشهداء مع زينب الى أرض الطفوف، حيث يتم مشهد الدفن الرهيب على يد بني أسد.
ولا بُدَّ هنا من ذكر المجالس الحسينيَّة النسائيَّة ودور هذه المجالس في التوعية وتقديم الأفضل من شاعرات وقارئات وهو موضوع يستحق الخوض فيه وتفصيله.
إنَّ طقوس الحزن العراقي الخاص على مقتل الإمام الشهيد لا تنتهي في اليوم الأربعين، إذ لا بُدَّ من استذكارٍ تفصيلي لحركة التوابين وانتصارهم على قتلة الحسين وأنصاره بقيادة المختار الثقفي وجيشه الحر.
هكذا تتوالى صفحات التاريخ الذي كانت لطقوس الأحزان الحسينيَّة سمة عراقية قبل سواها, فالعراق مسرحها مثلما هو مسرح اغتيال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قبل سنوات في مسجد الكوفة, وهو اغتيالٌ جبان للمروءة والشجاعة والفكر المحمدي الوضاء, وهو اغتيالٌ تجلت فيه شجاعة الإمام الشهيد قبيل وفاته حيث أمر بإبقاء القاتل الجبان حتى تقرير أمره بعد استشهاده.
وهذه الصفحة من اغتيال المقدس لم تطوها الصفحات بل يتجدد ذكرها كل عام في زمنها ووقتها كما يتجلى ذكر الشهداء الأئمة من آل علي بن أبي طالب عليهم السلام في أوقات استشهادهم, ليستمر استذكار هذه الأحزان وأخذ العبر منها أبداً, وعلى مر العصور.