تبديَّات التناص الدرامي في {سرندبال}

ثقافة 2021/09/25
...

  د. سعد عزيز عبد الصاحب
 
تشي نصوص الشاعر خزعل الماجدي المسرحية بانفتاح على المثولوجيا العراقية، سومرية كانت او اشورية او بابلية وانتقاء العجائبي والغرائبي والمدهش فيها وتحويله للغرض الدرامي، ويبدو أن السرديات الكبرى تنتمي لفضاء حكائي أسطوري متشابه ومتناظر على صعيد الحبكة واللغة في أحايين كثيرة بغض النظر عن الزمكان الذي حدثت فيه، فضلا عن ثقافة الشاعر التي ستسهم في توجيه المنتج الادبي نحو فضاءات بعينها، اذ منذ بواكيره المسرحية والشعرية الاولى وظف الماجدي تأثره بالدراما الشكسبيرية في نصوص مسرحية معاصرة لبست اللبوس المثيولوجي والاسطوري تحكي وقائع معاصرة، فمن مسرحية (هاملت بلا هاملت) و(سيدرا) خاض الشاعر غمار التعالق والتناص مع التراجيديا الاليزابثية من منظور مبتكر لغة واستعارات وصورا شعرية باذخة، واليوم يؤكد الماجدي في مسرحية (سرندبال) هذا التعالق والتناص ما بين المسرحية ذات المرجعيات المثيولوجية الآشورية في شكلها ومسرحية (هاملت) الشكسبيرية التي كانت النص الوحيد والفريد الذي دار حوله الماجدي في وعيه ولا وعيه وطرسا راسخا لا ينفك بالاخذ بتلابيب النص الجديد، لا سيما ان مفهومنا عن النص الدرامي المعاصر هو ـ بين نص ـ يمتلك قوته واصالته في التناص والتحايث مع نصوص أخرى تفككت وانصهرت في النص الجديد، (سرندبال) هذا البطل الاشوري الذي غمط حقه التاريخ ووصمه بالجبن والتخاذل، اعاد الماجدي انتاج قراءته من منظور درامي، فاعاد قراءة مفهوم السلام والفداء في سيرته، فهو آخر ملوك سلالة (اشور بانيبال) التي تقوضت امبراطورية مملكة اشور على يديه لانه لم يكن يريد الحروب إنما اصبح رمزا للسلام والمحبة فقد فدى الامبراطورية الاشورية واثامها بنفسه كأنه مسيح جديد يفتدي العالم بنفسه، لذلك كانت مسرحية (سرندبال) مسرحية تنتهج المنهج التعبيري في كون الصراع يقام بين البطل وذاته، كذلك الصراع في هاملت كان ذاتيا بين هاملت والفعل (أكون او لا أكون) وكلاهما كان ممزق الوعي متبأر نحو الداخل، وكلاهما قتل والده نتيجة مؤامرة مدبرة وقتل اخو سرندبال في الحرب ايضا..
سرندبال ـ مازال جسد اخي ساخنا.. ص800
هاملت ـ مازال جسد ابي ساخنا..
وفي الانفتاح نحو الذاتي يعترض (سرندبال) على توليه عرش اشور فيبدأ اقوى مونولوجاته الضاجة بالصور الشعرية
قائلا:
سرندبال ـ ثم من قال اني اريد ان اكون ملكا؟ انا الذي كنت انثر سيئاتي وجنوني على طول هذا الطريق وعرضه؟، كيف سأجعل النجوم تتساقط على اكتاف ضباطي لتصبح السماء بلا نجوم؟ ص801. 
فآشور سائرة نحو الخراب عندما تتحول نجوم السماء المضيئة الى نجوم تقود الحرب والدمار على اكتاف ضباط سرندبال في تشبيه شعري رائع لادانة الحرب واثارها، ويستمر التماهي مع هاملت في لحظات سرندبال الذاتية التي يكتنفها حوار وجداني داخلي في تأنيب حاد للضمير.
سرندبال ـ (يتحدث مع نفسه) وهل هناك اسوأ من هذا اين يد الحنان؟ واين ورد الجنان؟ (ينظر الى كفه) كفك هذه وان غسلتها بكل دجلة لا تتطهر.. ص802. 
في تناص واضح مع مسرحية (مكبث) وحوارات الليدي مكبث واعترافاتها بان كل العطور العربية لن تمحو جريمة قتل الملك (دنكن) مهما مر الزمان، ان موضوع الجريمة يمتلك معنيين مختلفين لدى (سرندبال) و(هاملت) فالاول يرى ان وصوله الى اعلى مرتبة في السلطة جريمة (ذاتي) في حين يرى هاملت ان وصول عمه للسلطة كان عن طريق ارتكاب جريمة قتل ابيه (موضوعي) ويبدو ان مفهوم التناص والتعالق مع البنية الادبية الشكسبيرية اصبح مهيمنا وحاكما في (سرندبال) فحوارات الاخير مع الكاهنة (العرافة) توحي باننا امام (ساحرات مكبث) و(مكبث) حين يتعرف على مستقبله الدموي وحتى في حوارات سرندبال مع الكاهنة نجد الروح الشكسبيرية حاضرة في النسق الشعري الذي يستخدمه (الماجدي):
الكاهنة ـ لماذا انت هائم هنا؟
سرندبال ـ انا جواب افاق وناثر اسئلة ص803..
يشبه حوار اوفيليا وهاملت في السؤال عن سبب جنون هاملت وسيره بغير هدى، ودور الكاهنة لا يتعدى الحدود الذي تلعبه الساحرات في توظيف العرافة وقراءة الطالع في ضوء نسق شرقي في القراءة بالبخور والاحجار تجسد فيه الكاهنة صيرورة تكوينية فنتازية للجسد البشري تقضي بقصر عمر الكاهنة كلما قرات طالع سرندبال..
الكاهنة ـ فكلما حاولت سبر اغوار مستقبلك تراجع عمري.. ص803. 
فكشف السر يقتضي نفاد العمر وقصره كما في البنية العرفانية الصوفية الاسلامية لابن عربي والسهروردي وابو بكر الشبلي التي تنهى ولا تبيح كشف السر وإشهاره؛ لذا كانت الكاهنة تصغر وسرندبال يشيخ ويهرم وكما يقول (النفري) كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة، فتحولات الكاهنة البايولوجية من الشيخوخة الى الصبا هي كناية عن فداحة كشف السر والدخول عميقا في المستقبل وسبر أغواره، وكاننا امام توظيف الماجدي لاحدى تقنيات حكايات ألف ليلة وليلة السردية في الصغر والكبر، وكل حضور طيفي للاب والاخ (ايلاني) هو حضور عضوي متعالق مع (هاملت) بحضور (الاب) الليلي في قناعه الحديدي، كذلك هو دخول الطيف لدى خزعل الماجدي هو حضور مزمجر غاضب ومعلن عن كشف جريمة فاشور اب سرندبال مات مقتولا، ويكشف المؤلف عن وجود قراءتين للطيف الاولى مع الاخ (ايلاني) هي مؤنبة ومعترضة على سلوك سرندبال ومهادنته لاعداء اشور ورفضه للحروب، والثانية هي كشف المضمر والخبيء من اسرار قتل الاب وتربص المقربين بسرندبال بالملك والسلطة وهي بعكس هاملت لم تثوّر الفعل الدرامي بتحويلها هاملت الى شرطي سري يراقب عن كثب أفعال أمه وعمه ويرمي الى الانتقام، بقي ظهور الطيف لدى الماجدي وما بعده ساكنا سوى ايصال معلومة قتل الاب والقصاص من المتآمرين، اما (اوبالط) صديق سرندبال المقرب هو استعارة وتعالق لا تخطئه العين مع شخصية (هوراشيو) في هاملت (واوبالط) يمتلك بعكس هوراشيو زمام تصعيد الفعل الدرامي فهو يخبر الملك سرندبال عن الاعداء المتربصين به والذين يرومون الحصول على السلطة (الزوجة الملكة الكاهن) والاعداء الخارجيين ويبقى مع الملك الشاب الى النهاية، اما التعالق بين الملكة (غرترود) في هاملت والام الملكة في سرندبال فلا يمكن حجبه بغربال، إذ تدخل الملكة لابسة لباس الحداد على ولدها القتيل وتقيم علاقة جنسية مشبوهة بالكاهن، إلّا أن ملكة الماجدي تحاول أن تصبح ملكة كسمير أميس وتأخذ عرش اشور بعكس غرترود التي لم يكن لديها طموح في السلطة.