ماشينكا.. رواية الوطن البديل

ثقافة 2021/09/25
...

 هدية حسين
 
ما إن انتهيت من قراءة ماشينكا للروسي الأميركي فلاديمير نابوكوف حتى تذكرت مقولة التشيلية إيزابيل الليندي في كتابها (بلدي المخترع) وهو سيرة ذاتية (لاحظت أن الكثيرين ممن بقوا في تشيلي وعانوا يعتبروننا نحن الذين غادرنا الوطن خونة، ويفكرون بأن الحياة في الخارج أسهل، ومن ناحية أخرى لا يخلو الأمر من منفيين يتهمون الذين بقوا في البلد بالمتعاونين مع الدكتاتورية) وهكذا ينطبق الأمر على كل مهاجر غادر وطنه ليبحث عن الأمان والحياة الكريمة، وقد يجد الأمان لكنه يسقط في حمى الحنين فلا تستقيم
حياته.
قبل الدخول في تفاصيل رواية ماشينكا هذه نبذة مختصرة عن فلاديمير نابوكوف، ولد في روسيا سنة 1899 وتوفي في سويسرا سنة 1977، وهو قاص وروائي وشاعر ومترجم وعالم حشرات، غادر روسيا بعد اندلاع الثورة البلشفية وكتب أعماله الأولى باللغة الروسية ثم أصبح يكتب باللغة الانكليزية، وتناول قضايا المهاجرين في معظم أعماله، يوصف بأنه شخصية مثيرة للجدل في الأدب الروسي، كما توصف أعماله بالمعقدة
والغامضة.
وبالعودة الى رواية ماشينكا فهي روايته الأولى التي كتبها في المهجر وصدرت في العام 1926، تدور أحداثها في برلين بين مهاجرين من روسيا يسكنون في نزل السيدة ليديا بأسعار رخيصة نظراً لقربه من سكك القطارات، بينهم غانين وألفيروف وكولين وكلارا وآخرون، لكن المساحة الأكبر سينفرد بها غانين، هذه الشخصية التائهة التي لا تعرف ماذا تفعل بأيامها ولا تقرر قراراً إلا وتغيره بالسرعة التي اتُخِذ فيها القرار وبالتالي فليس له خطط عمل للغد، وهو عاطل عن العمل ويدير حياته بما تبقى لديه من مال جمعه من مهن صغيرة مختلفة، وتربطه علاقة بامرأة تدعى لودميلا لكن تلك العلاقة تنتهي من جانبه ولم يهتم بعاطفتها المندفعة نحوه .. من لا يستطيع اتخاذ قرار في حياته كيف له أن يديم علاقة حب؟ حتى ماشينكا التي أحبها في روسيا لم يستمر معها سوى فترة قصيرة بعد ذلك هجرها من دون سبب واضح، لكن تلك الفترة امتدت في ذكرياته وهو في برلين فترة أطول، يستعيدها في لياليه الطويلة ويسبغ عليها حضوراً ساطعاً كما لو أنها المرأة الوحيدة في حياته، ولأنه لم يجد ما يشغله أو ما يخطط له في حياته فإن تلك الذكريات مع ماشينكا تصبح هي حياته، ولم يجد القارىء لماشينكا حضوراً أو يسمع لها صوتاً على ورق الرواية مثل بقية الشخصيات، إنها حاضرة فقط من خلال استرجاع غانين لها، وحتى عندما تأتي الى برلين لتلتحق بزوجها ألفيروف تظل مجرد ظلال لتلك الاسترجاعات، ولم تلتقِ غانين في النزل، لأنه وللمرة الأولى يتخذ قراراً ولم يرجع عنه، فقد غادر النزل صباح يوم السبت الذي تصل فيه ماشينكا بعد الظهر.. لقد أخذت ماشينكا مساحة كبيرة في الرواية وحضرت وهي غائبة فحركت الساكن
وأضافت الكثير من الحركة على سير الرواية التي لو لم تكن فيها بالطريقة التي اختارها لها المؤلف لسقطت في اجترار الذكريات وفقدت متعتها، وهذا سر نجاح فلاديمير نابوكوف حين قدم لنا شخصية لها كل هذا الحضور من دون أن تكون في قلب الأحداث والمشاكل التي كان المهاجرون يعيشونها.
تدور كثير من المناقشات بين المهاجرين، يطرحون من خلالها وجهات نظر مختلفة حول الوطن الأم والوطن البديل، بينهم من هو مستاء مما هو فيه، وآخر يقرأ على القديم السلام ويرحب بالجديد، فعالم الرياضيات ألفيروف بعد أن اطلع على الحياة في برلين يرى أن البقاء في روسيا أفضل برغم كل الظروف الصعبة، مع يقينه بأن كل شيء بالنسبة لروسيا قد انتهى (أزالوها، مسحوها، كما لو أنك تمسح بخرقة مبللة لوحاً أسود أو سحنة مرسومة) ص18، وعلى الرغم من حنينه الى بلده إلا أنه لا يفكر بالعودة إليه فهو الآن بانتظار أن تلحق به زوجته (ماشينكا) التي لم يرها منذ أربع سنوات، بينما يسعى الشاعر انطوان الى الحصول على تأشيرة ليخرج من ألمانيا الى باريس فالفرنسيون سمحوا له بذلك، وستكون فرحته كبيرة بعد مراجعات عديدة حين يحصل على الفيزا، لكن تلك الفرحة تتبدد عندما يفقد جواز سفره فيعيش حالة نفسية سيئة، وسيحتاج الى وقت طويل ليحصل على الفيزا مجدداً.
وهكذا لكل مهاجر حكايته الخاصة ومشكلته الكبيرة مع الوطن البدبل الذي لا يجد بعض المهاجرين فيه فرصة عمل تليق بإنسانيته أو سعيه الدؤوب للاندماج في المجتمع الجديد، وتبقى اللغة عائقاً كبيراً عند الكثير من المهاجرين، من لم يتقن لغة بلد اللجوء لن تسير حياته بسهولة، ويغرق البعض بذكرياته عن حياته الأولى في روسيا، عن مدينته وأصدقائه وعمله السابق وعلاقاته النسائية، فينسحب ماضيه الى حاضره غير المستقر في
برلين.
رواية ماشينكا. فلاديمير نابوكوف. ترجمة يوسف حلّاق. منشورات وزارة الثقافة السورية. دمشق