طريق المدرسة القديم

ثقافة 2021/09/25
...

  عبدالامير المجر 
 
ليس طريقهما القديم .. ما يسلكانه الان، طريق آخر، ولن يعودا منه هذا اليوم معا.. المقبرة التي باتت أشبه بفم حوت خرافي يلتهم الأجساد، تنتظر أحدهما، فالجثث تملأ الطرقات، والسلاح سيد الميدان وحصاده اليومي وفير ويصدر للمقابر بأسعار زهيدة..
قبل نحو أربعة عقود حين كانا تلميذين، قرأى معا الدرس الجميل، الذي يلعب فيه الاخوان الصغيران لعبة مسلّية.. يضع أحدهما صورته على الطائرة الورقية لترتفع بها الى الأعلى ويطلب من أخيه إيصاله بواسطتها الى المدرسة!.. ظلت خاتمتها في ذهنيهما يرددانها وهما يضحكان حين كبرا، مستعيدان عذوبة تلك الأيام ونقائها.. إنزلني إنزلني يا أخي لقد وصلت الى المدرسة....! تنتهي الحكاية بهذه الجملة التي يتخيل فيها التلاميذ الأخ وهو يسحب الخيط لينزل أخيه المعلق في السماء وسط المدرسة التي أوصله اليها.. صورة باذخة البراءة والجمال، ولعل شاعرا كتبها أو يمتلك حسّا شعريا عاليا.. هكذا وصفها لأخيه يوما بعد أن تقدمت بهما السنون وتزوجا وباتا معلمين، يعلمان التلاميذ ويذكرانهم بهذه الحكاية التي رفعت من المناهج لاحقا..
حين عثروا على جثة أخيه بعد أيام من فقده، وجدوها مرميّة قرب سياج مدرسة قديمة..! فصار كلما داهمه النوم وهم في الطريق الى المقبرة، يأتيه اخيه معاتبا ويقول له؛ لماذا تركتني أقع بأيديهم ولم توصلني الى المدرسة؟!
 يتكرر الحلم الذي بات كابوسا، يضغط على صدره ويوقظه بقسوة كلما غفا قليلا، وهاهو في الطريق الى المقبرة، يجلس قرب السائق، مشدوها ودواخله ذابلة، يقلب ايامهما الجميلة ويتوقف عند حكاية الطائرة الورقية التي لايريد اخيه ان يبارحها ويذكّره بها معاتبا كلما غفا..  أعياه السهر تماما وروحه المطحونة استكانت وتركته يغفو... كان أخوه اشبه بغمامة بيضاء في الأعالي، فيما هو على الارض ممسك بخيط الطائرة الورقية التي ترفرف وسط زرقة السماء وصمتها الذي اخترقه صوته عندما جاء هادئا وعذبا ويخالطه ذاك الشعور القديم بالمرح.. لقد مدّ ذراعيه وراح يحلق كنوارس الربيع، يسبح في الفضاء التي بات فيها وحده، يدور ويدور، ثم نادى على اخيه الذي مازال ممسكا بالخيط ويدور معه على الارض التي صارت تتقلص تحته فيما السماء تتسع وتتسع، وهو يبتعد، حتى كاد خيط الطائرة الورقية ينقطع قبل ان يأتيه صوت اخيه مثل زخة مطر دافئة وصدى الكلمات راحت ترن في اذنيه لتوقظه... انزلني انزلني يا أخي.. لقد وصلنا
الى المقبرة !!!.