المسرح والمدينة

ثقافة 2021/09/25
...

  د. أحمد شرجي
 
احتضنت المدينة المسرح منذ نشأته، ويعبر المسرح دائما عن قضايا المدينة/ المجتمع، وتؤكد العلاقة بين المسرح والمدينة، بأن المدينة ليست مجرد بيوت وشوارع، بل هي روح وثقافات وديانات
وتقاليد. 
ويبرز الفعل المسرحي هنا ومن خلال ارتباطه بالمدينة فعلا اجتماعيا. لا يتطور المسرح إلا من خلال ذوبانه في المدينة، المسرح فعل تنويري وحضاري، والعكس أيضا صحيح، لا تتطور المدينة إلا من خلال فعالية المسرح وحراكه داخل المجتمع/ المدينة. إن عملية الارتقاء بالمجتمع جزء منه ضمن فعالية  وديناميكية المسرح. يلعب المسرح على مر العصور ومنذ نشأته الاولى عند الاغريق دورا مهما في تطور المجتمعات، تطورت اثينا عبر مدنية وحضارية المسرح. تضيء المدن بضوء المسرح وشيوعه. وحين تنطفأ اضواء المسرح، تغرق المدينة بالظلام، وتصبح ثقافة الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي (سلطة) تمتلك منصة التأثير الاجتماعي والسلوكي والاخلاقي
داخل المجتمع.
فكيف نُحيي المدينة عبر المسرح؟، وكيف نحتفي بالمسرح بواسطة المدينة؟، لا بد من وضع ستراتيجية للنهوض بهما، ليكتمل فعل التأثير والتأثر، لا بد من ايجاد معالجات عبر تخطيط سليم للنهوض بهما، وليس مجرد تصريحات هنا وهناك. يجب أن تصل العروض المسرحية إلى مدن وقرى بعيدة عن التداول الفني والمسرحي، وليس فيها خشبات مسارح ليتعرف الناس على سحر الكلمة وجماليتها. الوظيفة الاساسية للمسرح هي المتعة، وحتما تختلف المتعة وفق تباين المجتمع وتنوعه وتعدديته الثقافية، متع روحية وحسية، يسعى إليها المتفرج ليستبدل عالمه المليء بالفوضى وتداعيات اليومي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، بعالم متوازن، يأخذه بعيدا عن واقعه
الذي يعيشه. لا بأس من الاستفادة من تجارب دول رسخت دور المسرح في المدينة، كما في تونس التي تفرض على العروض المشاركة بمهرجان قرطاج الدولي تقديم عرض مسرحي  خارج المهرجان في مدينة تحددها ادارته، ويكون التنسيق بين الادارة والمدينة لاستضافة العرض وتقديم الدعم اللوجستي له، والاهم الجانب الاعلامي داخل المدينة، ليكون هذا اليوم مميزا داخل المدينة، لأنها تحتفل بفرقة اجنبية، ثقافة مختلفة، تقدم خطابها لجمهور مختلف عن جمهور العاصمة النابضة بالفعل الثقافي، مدن نائية يحاول تدجينها اليومي السياسي، تجد في المسرح متنفسا عالي الجمال، ملاذا تلوذ به من مرارة الواقع، وعندما يتداخل نسيج المسرح مع نسيج المدينة، يمزج بين المتخيل والواقع، وحتما يخلق تأثيرا متبادلا.  
وكذلك التجربة المغربية، تفرض وزارة الثقافة على الفرق المسرحية التي تقدم ملفات الدعم السنوي للوزارة، ان تقدم عروضها في مدن مختلفة داخل المملكة، كل ذلك من أجل الاحتفاء بالمدينة والمسرح معا، وايصال العرض المسرحي إلى ابعد نقطة ممكنة، لعلها تسهم بالنهوض بالمسرح والانسان والمدينة. ستراتيجية هدفها الارتقاء بالمجتمع بشكل عام والفرد بشكل خاص، وفي أضعف الإيمان تخلق أجيالا متذوقة للفن والجمال والحس
الانساني.
 لهذا على الحكومة العراقية والجهات الثقافية المعنية تبني مشروع المسرح والمدينة لترسيخ قيم التسامح والتذوق الفني ونبذ التعصب، من خلال الزام الفرقة الوطنية للتمثيل بتقديم عروضها بمناطق بعيدة عن المركز، ويثبت ذلك بخطة عملها السنوية للأعمال المنتجة، واستثمار وجود القصور الثقافية في المحافظات، ولا تقتصر الخطة على العروض المسرحية التي تنتجها بغداد، بل يكون تبادل مسرحي لعروض المحافظات ايضا، لتتعرف المدن العراقية على الحراك المسرحي والثقافي في المدن الاخرى. لا يمكن ان تكون المهرجانات بديلا عن تداخل المسرح والمدينة، لأنه تناسج مؤقت، يكون في اغلبيته بعيدا عن افراد المجتمع، وجمهوره مختصر، لكن عند انفتاح المدينة على المسرح، وإدامة العلاقة بينهما سيخلق مجتمعا سويا. والأهم نشر المدنية بين عامة الشعب، وهذه إحدى مهام المسرح وخطابه التنويري داخل المجتمع.
ما اهمية الفن والثقافة اذا لم يكونا مؤثرين داخل المجتمع؟، وما أهمية الفنان اذا لم يكن عضويا بمفهوم (غرامشي)، و أن يكون فعالا داخل المجتمع من خلال الثقافة ومساهما بالتغيير المجتمعي، حتى نسهم بنهوض المدينة وشيوع الثقافة المدنية، وكذلك خلق أجيال سوية لا تؤمن بالرصاص وحمل السلام، بل تحمل الهم الثقافي والفني من أجل إعلاء شأن بلدها، أجيال تؤمن بضرورة التعليم والعلم والجمال وتتقبل الرأي المختلف، وتمتلك زمام المبادرة وتكون مؤثرة داخل البيت والمدينة.