ليلة الحلم الايطالي.. تداخل السرد بالتاريخ

ثقافة 2021/09/29
...

 باسم عبد الحميد حمودي
 
تشكل رواية الكاتب ماهر مجيد ابراهيم (ليلة الحلم الايطالي) نوعا من فرادة التكوين السردي، إذ يقدم السارد الرئيس الذي اتخذ بنية البطل الاساس (نبيل) نوعا من الأداء الجدير بالانتباه والنقاش.
يأتي الانتباه من أن البطل – الراوي العليم- نبيل لا يغلف البنية السردية للأبطال، بل يدعهم يتحدثون على هواهم وهو يمسك بتلابيب العمل فكريا مسقطا كل ثقافته العامة على الاحداث، وبطريقة تجعل مسار التحرك الدرامي واقفا، بينما يقوم (نبيل)  ومن يساعده من الشخوص بتحريك الحوارات التي لا تتخذ في مشاهد شتى بنية تدفع الاحداث الى أمام للوصول الى ايقاع حدثي جديد، بل لتأكيد فكر تحليلي والوقوف عند جدل بين بطلين ينتميان الى فكرين غير متوافقين، لكنهما لا يتصادمان تماما، مثل فكر (لقى) البرجوازي الرافض للتغيير الثوري وفكر (نبيل) المراقب للتاريخ وللحياة، إذ يعيشها مدركا طبيعة ما يحدث وحزينا على ما لحق بوطنه من أضرار سببته الأنظمة المتوالية الحاكمة وقوى الاحتلال، التي فجرت كل ما هو مخبوء وغير انساني من قسوة ودوس على الكرامات وخروج على الأعراف النبيلة.
معظم تفاصيل الرواية تدور في منطقة الكسرة البغدادية العريقة وجوارها منطقة الوزيرية التاريخية، إذ يمتد الفضاء الدرامي الأرضي بين البانزين خانة الواقعة مقابل مقر معهد الدراسات النغمية سابقا وكلية الفنون الجميلة وما يقابلها، وصولا الى قبور المقبرة الانكليزية التي تجاور سدة سكة القطار القديمة وبيوت الحواسم الجديدة.
قبل الدخول الى الشارع المشجر المواجه لمقبرة الانكليز، لا بد من الاشارة الى فضاء الشارع الرئيسي الذي يبدأ من الباب المعظم الى الأعظمية دخولا في منطقة الكسرة التي تجري فيها معظم أحداث الرواية.
يصحبك الروائي هنا الى الأزقة المجاورة لأبنية لها قيمتها التاريخية، ومنها بناية قسم المسرح التابع الى كلية الفنون الجميلة الذي يقابله بناء نادي القادة أو ما تبقى منه.
تاريخيا يعد قسم المسرح هذا، هو البناء التاريخي لمعهد الفنون الجميلة الاساسي/ معهد الشريف  محيي الدين حيدر وحقي الشبلي وابراهيم جلال وعلي الداود وبدري حسون فريد وسواهم من عباقرة  الموسيقى والمسرح العراقي، يقابله البلاط الملكي، أي مقر الادارة الملكية، حيث عمل الملوك الثلاثة فيه (فيصل الأول -غازي- فيصل الثاني والوصي عبد الاله) ثم كان مقرا لمجلس السيادة الذي عينه انقلابيو 14 تموز  وهم  الفريق  محمد نجيب الربيعي رئيسا  والشيخ محمد مهدي كبة والعقيد خالد النقشبندي عضوين يقومان بمهام رئيس الجمهورية  المفترض.
اصبحت البناية بعد هذا مقرا لرئاسة جامعة بغداد عام 1963، حتى جرى هدمها لتتحول الى ناد كبير للقادة العسكريين أضيفت اليها المساحات الشاسعة المجاورة التي كانت تشكل اجزاء، منها خان الحاج محسن الذي جمع اسرا من الجنوب ومن الاهواز، وبالقرب منه حدثت كسرة نهر دجلة حيث دخلت المياه من النهر الى دور المنطقة نتيجة اهمال المشرف على المزرعة الملكية التي كانت تجاور الخان.
في هذا الخان تجري احداث رواية الكاتبة هدية حسين الاولى المعروفة بـ (الخان) وفيها تفاصيل شعبية مهمة عن بدايات محلة الكسرة.
 تاريخيا حتى سبعينيات القرن الماضي كان الشارع المشجر الذي يقابل مقبرة الانكليز يجمع ابنية السفارة التركية والسفارة السعودية والمعهد الثقافي البريطاني وبعض الكافتريات الجميلة، وصولا الى الجهة المقابلة التي تقع فيها بنايتي دارين مستاجرتين كقسمين داخليين لبنات كلية التربية، يعد من اجمل الشوارع البغدادية الصغيرة، حيث يتشابه مع جمال واحتشاد الشباب فيه بشارع جعفر العسكري الكثير الاشجار المجاور الى مقتربات كلية الطب العراقية عند فضاء يتصل بنهر دجلة.
ومثلما شهدت الوزيرية وبيت (لقى) الفخم حوارات هذه الشابة الجميلة مع نبيل حول السلوك غير الحضاري لإنسان ما بعد انقلاب عبد الكريم قاسم، شهد شارع العسكري المشجر حوارات العاطفة الضاجة بين عبد الملك نوري وحبيبته منة العزيز الزهاوي، تلك الحوارات التي أدت لزواج عاصف ثم الى ذلك الانفصال الذي دمر حياة القاص الراحل.
 ادخلت هذه المعلومات (أنسرت) مع الجهد النقدي التوصيفي لرواية (ليلة الحلم الايطالي ) لكي يشعر القارئ بقسوة الملل الذي يصيبه من  توارد صراع الأفكار بين أبطال الرواية من ذوي الياقات البيض مثل نبيل ولقى وأمجد وانسجام وسواهم من موظفي المتحف البغدادي، في وقت نجد فيه أن هذه النقاشات لا تظهر بين الشخصيات الشعبية التي تتعايش مع نبيل الذي يسكن بينها مثل رزوقي وأبو أحمد وعلي فون وسواهم.
 تتميز هذه الرواية بتداخل شخصيات منطقة الكسرة الشعبية بالشخصيات الاخرى من ذوي الياقات البيض من فنانين ومثقفين واصحاب اعمال مثل المحامي باسم.
لم تكن نماذج مثل «ابو رحومي ورزوقي وصاحب الموبايلات علي فون» تتقاطع مع النماذج الاخرى التي تعيش الى جوارها (في الكلية )  وبعيدا عنها (في المتحف)، فكانت الرواية تتحرك وسط حوارات متصلة بين  بطلها (نبيل) والثنائي امجد - طيبة والنماذج النسائية التي عايشها ليختار القدر واحدة منهن لترتبط به ارتباطا زوجيا وهي انسجام التي غادرت المتحف لأشهر، لتترك الدرب عريضا امام (لقى) الفتاة البغدادية الثرية المغتربة في ايطاليا، والتي عادت لفترة ضمن بعثة  تعاون لتنسجم مع نبيل انسجاما وثيقا جعلها تهدي له كل مقتنيات والدها الثمينة، وهي تعتزم السفر بلا عودة الى ايطاليا بعد أن أيقنت أنّ نبيل في عالم حلمي وطبقي  وفني يبدو بعيدا عنها، لكنها تدرك أنه الأقرب  الى حلمها او يكاد.
مثلها قبل ذلك فكرت (سالي) ابنة «ابو ادريس» وامها وهما تستعدان للهجرة، وكانت ديانتاهما اليهودية القديمة سببا في حصوليهما على اللجوء بعد ان لم تفلح ام ادريس ولا سالي في اقناع نبيل بالزواج.
كل هذا التحرك السريع في الهجرة والاغتراب كان جزءا منه جرائم حقي الملاكم، الذي استحوذ على حقوق البعض وقتل من يعارضه وهو ينتهك العرض والمال، مقابل هذا المجرم وعصابته تظهر شخصية الضابط غانم الشجاعة التي استطاعت بهدوء تقويض عصابة حقي وانهاء اسطورته.. بسفر (لقى) وارتباط نبيل بانسجام ينتهي الحلم الايطالي ويتشظى، لتظل الحياة تتوالى بالرغم من كلما
يحدث.