نحتُ النصّ

ثقافة 2021/09/29
...

 محمد صابر عبيد
 
يحتاج كلّ فعل أو ممارسة أو نشاط أو مشروع أو تخطيط أو فكرة أو إبداع أو ما شابه ذلك إلى عمليّة نحتٍ كي يصل إلى طبقة مثلى لا خللَ فيها، فكلّ إنسان يمتلك في داخله حساسيّة نحّات يصوغ الأشياء التي تخصّه على نحوٍ جميلٍ ومُتقَنٍ وبارعٍ ما وسعه ذلك، كي يصل بما يريد إلى أفضل حالة تصله بأهدافه ومقاصده وغاياته وبأسرع السبل وأكثرها ضماناً للنجاح والتألّق، ولعلّ الأفعال الفنيّة الإبداعيّة الجماليّة هي الأكثر حاجة للنحت من غيرها، بما تكتنزه من قيم وميزات وخصائص تتّصل بالجانب الروحيّ العميق للإنسان وتغور في أعماقه ومتاهاته، وتقدّم صورة غنيّة وخصبة عن النشاط البشريّ الخلاق الذي يمكنه أن يُثري الحياة ويجعلها أكثر جمالاً وحيوية وبهاءً وفرحاً.
تتدخّل الفعاليّة النحتيّة في جوهر النظام العام للصوغ النصيّ داخل تفاصيل المتن وحيثياته وقضاياه، للوصول إلى أبلغ حالة نصيّة يجب أن يكون عليها النصّ في خاتمة تشكيله، فحين يُكتبُ النصُّ أوّل مرة يستجيب بقوّة لسلسة الاندفاعات العاطفيّة والانفعاليّة الساعية إلى تمثيل التجربة وتدوينها بسخونتها وقوّتها وانتشارها، وهذه الاستجابة لا تأخذ بنظر الاعتبار ما يتّصل بشعريّة النصّ وتفاصيله البنائيّة الخاصّة من خطوات وطبقات على نحوٍ دقيق ومحسوب، بل تنقل حساسيّة الشعور المتدفّق بكمّ من الألفاظ لا يقف إلا حين تصل العاطفة إلى درجة إشباع كبيرة، ومن ثمّ تترك هذا الركام الكبير من الدوال والصور والتشكيلات اللفظيّة على مساحة النصّ الكتابيّة بما يشبه فعل التكديس المُخلِّص، وهو ما يمثّل المرحلة الأولى الابتدائيّة في الصناعة النصيّة التي يحصل فيها الصانع على المادّة الأوليّة الضروريّة للعمل.
تحتوي الكتابة الأولى للنصّ على طبقات قوليّة كثيرة فيها المضيء وفيها المعتم، فيها سنابل ممتلئة ريّانة وفيها زُوان، فيها أخضر وفيها يابس، فيها جواهر وفيها حصى، فيها ما ينفع الناس وفيها زَبَد، وفيها وفيها، على النحو الذي تحتاج فيه إلى مرحلة تنقيةٍ وتصفيةٍ وفلترةٍ ونَخلٍ تنقذُ ما هو صالح وجميل ومفيد وتهمل ما هو طالح لا قيمة له، وذلك لبلوغ كتابة أخيرة صافية خالية من الزيادات والاستطالات والعوالق والطفيليّات في عمليّة جراحيّة شديدة الدقّة، والإبقاء على رشاقة الجسد النصيّ الأصليّ الخالي تماماً من أيّة تورّمات تشوّه صورته، كي يبقى أخيراً في كامل أناقته ووسامته وسحره النموذجيّ القادر على صناعة الإدهاش والجمال.
يمكن أن توصف هذه العمليّة الجراحيّة الشديدة الدقّة بـ»نحت النصّ» وهي تُعنَى بإزالة كلّ ما هو زائد عن جسد التمثال النصيّ، كي لا يتبقّى سوى النصّ بهيّاً عارياً من كلّ ما يُخلُّ بتناسقه الجماليّ وتكامله التشكيليّ، وتحتاج عمليّة نحت النصّ إلى قدرات وخبرات وحساسيّات وطاقات ومعارف ومرجعيّات وإمكانات هائلة، بعضها ذوقيّ وبعضها حِرَفيّ وبعضها خبرويّ، تتدخّل فيها المعرفة والحساسيّة والموهبة والأداة المشحوذة جيّداً وسرعة البدهيّة والجرأة والبسالة والوعي، بحيث تأتي العمليّة على الكيان النصيّ كاملاً من قلبه إلى أطرافه، ومن مركزه إلى محيطه، ومن سكونه إلى حراكه، ومن ضوئه إلى عتمته، ومن هدوئه إلى التماعته، ومن غموضه إلى تَجلّيه، يكشف فيها النحّات الماهر عن طاقاته وإمكاناته النوعيّة البارعة العاملة في الميدان، بما لا يترك منطقة أو جهة أو حَدّاً أو احتمالاً أو طبقة أو طَيّة أو زاوية أو ظلّاً إلا ويأتي عليها، ويُعمِلُ فيها إزميلَه بأعلى درجات الكفاءة والحيويّة والثقة والمزاج والخبرة والحماس.
كنّا نسمع مقولة ذائعة الشيوع في هذا المجال أيام زمان ونصّها: «الزيادة كالنقصان» وهي تذمّ الزيادة وتهجوها وتنكرها وتساويها بالنقصان، إذ لا شيء أسوأ من النقصان سوى الزيادة، فالتمثال/ النصّ لا يحتمل الزيادة مثلما لا يحتمل النقصان، إذ النقصان يجعله كياناً ناقصاً يظلّ بحاجة للاكتمال كي يكون مناسباً وقابلاً للتعاطي معه بَصَريّاً وذوقيّاً وجماليّاً، وطالما أنّه يعاني من نقصٍ فستتعطّل أجزاء أساسيّة مهمة من فعاليّة التلقّي في مجتمع الاستقبال، ولن يرقى إلى ما يسهّل له الانتماء الحقيقيّ إلى حقل الإبداع ويتكسب هويّتـه الشرعيّة، ومثله الزيادة التي تترك على جسده نتوءات ناشزة تعيق جماليّات التلقّي بما تتركه هذه الزيادة من تشوّهات وبقايا، تمنع حساسيّة التواصل والتفاعل على النحو المطلوب.
لا تتوقّف عمليات نحت النصّ عند نقطة مُعيّنة إلا حين تصل إلى درجة الاكتفاء التي تحيل على أعلى قدرٍ من الإحساس النوعيّ بالاكتمال، وقد تحتاج إلى سلسلة مراجعات وتدقيقات بروح نقديّة هندسيّة تزيح عن جسد النصّ كلّ ما هو زائد، ولا شكّ في أنّ هذه العمليّات تنطوي على قدرٍ هائلٍ من المتعة حين يقوم النحّات بإعادة إنتاج نصّه، إذ في كلّ قراءة جديدة يحذف مفردة هنا ويضيف أخرى هناك، يقدّم مفردة ويؤخّر أخرى، يرفع مقطعاً إلى أعلى ويهبط بمقطع آخر إلى أسفل، يرمّم صورة بحاجة إلى ترميم ويجمّل أخرى بما يضيفه لها، يغيّر في هيكل العنونة ويهندس طبقات المتن، حتى يصل إلى درجة من القناعة تتوفّر فيها درجة عالية من الاستقرار والطمأنينة والسلام الروحيّ، عندها يمكن أن تكون فعاليّات النحت النصيّ قد وصلت إلى نهاياتها المطلوبة وبلغ التمثال النصيّ أمثل صور التكامل الجماليّ المطلوب.