من علامات زهو الشعوب المتمدنة وإظهار تفوقها، هي الاهتمام بعلمائها وباحثيها الذين قدموا للعلم والحضارة الإنسانيَّة الكثير، ومثلما نحتفي بجهود علمائنا الأعلام في شتى صنوف المعارف: (طه باقر ومصطفى جواد وفؤاد سفر وفيصل الوائلي في التاريخ القديم وعبد الجبار عبد الله في الفلك والفيزياء)، لنا في الأدب والفكر الكثير من المبرزين.
منهم من برع في أكثر من حقل معرفي وهم كثر لا تستوعب نشاطاتهم هذه المقالة التي أردنا تخصيصها لنشاطات الباحث الكبير الأستاذ الدكتور محسن مهدي رحمه الله.
ولد محسن مهدي في بلدة عين التمر المطلة على صحراء كربلاء في سنة 1924 والحافلة بالبساتين الجميلة وبعذوق تمر الازرك ازرقي وينابيع العيون الرائعة, ورعاه والده الحاج المهتم بطب جالينوس الشعبي, وأدخله في الثانية المدرسة الإعدادية المركزية ببغداد دارساً التاريخ على يدي الأستاذين صادق الملائكة ثم المؤرخ جواد علي.
وكان وهو في كلية الآداب ببغداد يلتقي بجماعة (الواق واق – الوقت الضائع) ويتشرب ملامح الفكر التجديدي قبل أنْ يرحل لدراسة الاقتصاد في جامعة شيكاغو, لكنه هناك تحول الى دراسة الفلسفة الإسلاميَّة على يد الأستاذة العراقية المغتربة نبيهة عبود والدكتور ليو شتراوس.
ونبيهة عبود لمن لا يعرفها واحدة من المهتمات بالليالي الشهرزاديَّة وتحقيقها ولها محاولات مثمرة في هذا الأمر، لكنَّ بعض الدارسين يضيعون جهدها بتحريف الاسم عند النقل والترجمة وذلك موضوع آخر كشفه يوماً الأستاذ الدكتور جليل العطية.
إنَّ دارس سيرة الأستاذ مهدي ليبهره هذا التنوع في العطاء، فقد درس التاريخ والاقتصاد والفلسفة الإسلاميَّة وأضحى أستاذاً للدراسات الفلسفيَّة الإسلاميَّة في العصر الوسيط, وقدأ أنجز دراسة الدكتوراه عام 1954 عن فلسفة ابن خلدون الذي شغله كثيراً وكتب عن منهجه التاريخي مراراً هو والفارابي الذي كتب عنه عدة دراسات منها: (الفارابي وتأسيس الفلسفة الإسلاميَّة في العصر الوسيط) وكذلك كتابه (أبو نصر الفارابي وفلسفة أرسطو) ثم (الفلسفة والسياسة في العصور الإسلاميَّة الوسطى). وكتب عن فلسفة ابن رشد كواحدٍ من كبار الفلاسفة المتكلمين الذين شرحوا ارسطو وأضافوا الى منهجه الفلسفي الكثير ضمن المعتقدات الإسلاميَّة.
اشتغل محسن مهدي في جامعة شيكاغو وترقى فيها أستاذ كرسي حتى مغادرته لها بعد تقاعده ليكون حراً جوالاً في جامعات ألمانيا والمكسيك وهولندا وباريس والقاهرة حيث عمل أستاذاً زائراً ومحاضراً مهماً في معهد العالم العربي بباريس.
كان أستاذنا محسن مهدي يؤمن بضرورة نشر الأصول الخطيَّة لكتب التراث وتدقيقها عند دراسة الأدب الشعبي, وضمن هذا المنهج أنجز لنا تحقيقه الممتاز عن (ألف ليلة وليلة) في أصولها الأولى في مجلدين مهمين يشملان دراسة الأصول الأولى لليالي الألف في مختلف المراجع وليكشف زيف الإضافات غير الضروريَّة والكاذبة لحكايات الليالي وهو أمرٌ قمت بشرحه مراراً في عدة دراسات نشرت على مدى سنوات في مجلات: (المأثورات الشعبية القطرية ومجلة التراث الشعبي العراقيَّة) ومجلات أخرى وصحف متنوعة، فضلاً عن نوافذ الكترونيَّة كثيرة, ثم قمت بنشر تفصيلي لمنهجية محس مهدي في دراسته عن الليالي في كتابي (سحر الحقيقة) الصادر عام 2000 والمطبوع عام 2014 بطبعته الثانية المختصرة ببغداد. وكشف الدكتور مهدي عن أنَّ هذه الألف المفترضة هي لا تزيد على 282 حكاية بضمنها حكاية الإطار وما زاد عليها إنما هي زيادات النساخ والرواة غير الموضوعيين، حسب دكتور مهدي هذا.
توفي الدكتور محسن مهدي في شيكاغو في التاسع من تموز 2007 وأقام له تلامذته في جامعة القاهرة حفلاً أربعينياً ومؤتمراً علمياً استمر ثلاثة أيام قدموا فيها دراساتهم الثرية عن فكر هذا العالم الكبير الذي ظلمه وطنه الأم ولم يلتفت إليه حياً وميتاً.
اليوم تأتي وزارة الثقافة العراقيَّة لتقرر طبع كتاب واحد ضمن مشروع طبعة بغداد، ونعتقد أنَّ ذلك ينبغي أنْ يكون فاتحة لعمل أكبر يتضمن مؤتمراً كبيراً عن هذا المفكر العراقي الأصيل في كل تحولاته الفكريَّة تشتغل فيه الجامعات العراقيَّة مع الوزارة المعنيَّة.. وحسبنا أنْ نذكر.