اللقاح الخارجي للنص

ثقافة 2021/10/02
...

 وارد بدر السالم 
 
{1}
لا يتكامل النص حتى يُفهم. ولكي يُفهم تتدخل عوامل خارجية مساعِدة لتشريح النص وتفكيك بنيته ووضعه في أكثر من سياق تأويلي. ومع أن هذه الملاحظة عامة في محمولها العلمي؛ فأن صلتها النقدية ومرجعياتها الفنية تخص نظريات التلقي، وتضعنا أمام مستويات قرائية متفاوتة، كون التلقي يُنتج قرّاءً من ثقافات متعددة يمثلون أجواء أدبية وفنية مختلفة المستويات والمناشئ والمرجعيات الفكرية؛ وبالتالي ستعقب هذه القراءات ولادات نصية جديدة مقارِبة للنص الواحد، وتأويلات شارحة أو مساهمة ومشارِكة في الفعل السردي المقروء. بمعنى أن القراءات المتعددة تشرع بمكاشفاتٍ وخلاصات أخرى لا تظهر على سطح النص. بل تظهر في تأويل القراءة بتبايناتها المعرفية والثقافية وقدرتها الهاضمة على استيعاب النصوص، بعيداً عن سلطة المؤلف ومفهوماته الأدبية في عقد الصلة بينه وبين النص، حينما يحمل معه مقاربات وتعالقات تاريخية ودينية وأسطورية وخرافية وإمكانات فنية وتأويلية غير محددة. وبالتالي تظهر مهمة أخرى للقارئ بعيداً
عن المؤلف.
 
{2}
كثير من النصوص المتداخلة ببنيتها الفنية، بها حاجة الى إنتاج قارئ أنموذجي ذي بنية ثقافية معتمدة؛ ليصبح مشاركاً إنتاجياً بين النص والمؤلف. فالنص (آلة كسولة يشغّلها القارئ) بحسب امبرتو إيكو. وهذه الآلة؛ التي ستبدو جامدة في قراءتها الأولى؛ تحتاج الى تدخلات خارجية تضفي عليها حياة جديدة وتؤسس لها كياناً آخر مشحوناً بالحرية والسعادة أيضاً. خاصة لو اتفقنا مبدئياً على أن منظّري ما بعد الحداثة الأدبية وجماعات نظريات التلقي العام والبنيويين الغربيين؛ حاولوا إيجاد مناطق وسطية لفرز بلاغة النص ومخفياته الباطنية. فانسجموا مع مفاهيم مصطلحية نقدية شاعت في أوساط النقد والقراءة: النص المغلق/ النص المنفتح - المفتوح/ ظاهر النص/ باطن النص الذي تحمل طبقاته التحتية إضافات تفسيرية خارج سياقاته ذات المعاني المكرسة لفهمه من قبل المؤلف. وبقينا نقرأ ونواجه مصطلحات غربية، سعياً لخدمة النصوص وتفكيكها في معايير ما بعد البنيوية. شغلت منظّري ما بعد الحداثة بالمثاقفة والتحليل والتطبيق النصوصي سرداً وشعراً: إيكو. فوكو. دريدا. لاكان. كما شغلت البنيويين مثل بارت في/ النص المقروء/ النص المكتوب/ على اعتبار ان النصوص المحاذية تولد من القراءة (النص هو السطح الظاهري للعمل
الادبي- بارت).
 
{3}
النص لا يحتاج الى تفسير بقدر حاجته الى لقاح خارجي بعد الكتابة/ والكتابة هي أساساً مشروع قراءة. ولكن مفهوماً أو مصطلحاً عربياً يُنسب الى أدونيس هو: الكتابة الجديدة. لم تكن أصداؤه واضحة في الكتابة الشعرية والسردية. وظلت التسمية مطّاطة تُنسب الى كثيرين، فالكتابة الجديدة في الغالب يفترعها اللاشكل/ كشكل محفّز للاسترسال السردي والشعري. ومثل هذا الجديد في الكتابة بنوعيها الشعري والسردي هو خروج عن تقاليد الكتابة المؤسِّسة، التي افترق عنها كتّاب ما بعد الحداثة والتجريب مع عوالم الحداثة التكنولوجية والإلكترونية في فضاءات ثانية من الإبداع. لكن ستبدو «الكتابة الجديدة» مفهوماً سائباً، أكثر من كونها مصطلحاً نقدياً. فكل كتابة تُعد جديدة بمعيارية زمنها.
وأن الشكل الشعري- التراثي القار، خرقته قصيدة النثر ليصبح اللاشكل هو قاعدتها التي مضت اليها أجيال شعرية لعقود طويلة وما تزال. على أن يكون هو الشكل المناسب لها.
 
{4}
يبدو أن المصطلحات غير مهمة كثيراً أمام كتابات أسست لتقاليد فنية جديدة، وفتحت منابع ثرية للتواصل الشاق في مهيمنة الإبداع الشامل. فالمصطلح كما يبدو للتفريق النقدي. أو السبق الى تسمية حالة فنية من دون سواها ولا أكثر من هذا. ونرى دائماً أن المصطلحات تشبه محطات الوقوف للتبصر النقدي، وفرز المتون عن الهوامش. ويمكن لنا أن نضيف في أية مناسبة مصطلحات مقاربة وسونارات كاشفة ممكنة كـ/ روح النص/ اسفنجة النص/ كشّاف النص/ سونارات النص/ لتوفير مفهومات دالّة على النصوص في اكتنازاتها الشكلية والمعرفية ومن ثم الفنية. حتى أطروحة بارت في النص المكتوب والنص المقروء، ينتفي الغرض منها ما دام فهم التلقي يرتبط بالكتابة أساساً. يليه خيال النص عند
القارئ.
مثل هذه الاضافات لا تهدف الى تحشيد المصطلحات النقدية وإثقال النص بتجريدات كيفية وتكثيف لغوي؛ بقدر ما هي إضاءات مباشرة لتوفير الحد الأدنى من التعامل بين القارئ والنص. فعندما يكون النص شبيهاً بالإسفنجة الماصّة، فهو نص هاضم تحت نسقها المرن. وقارئ النص هو النسيج المضمون المتداخل معها في تداعيات القراءة وخيالها المفتوح الى مديات أكثر سعةً. وهذه الاسفنجة الهاضمة والماصّة تتستر في كثير من الأحيان على باطنها الذي لا يكشف مستورها المضموني أو التأويلي، إلا بقدر ما يمتلكه القارئ من كشّافات سونارية دقيقة. فالباطن هو المتحرك الخفي الذي يقود النص للخروج من قوقعة قد تكون مغلقة. وبالتالي تحقق القراءة سعادتها الوصفية في مجاورة النص. ليستخلص هارولد بلوم من أن القراءة فن من الفنون يعكس أهمية التلقي الشخصي في محاورة النص وإعادة إنتاجه الفني.
 
{5}
نرى أيضاً وأنه بخلاف ذلك لا يمكن للقارئ أن يضع سوناراته الفاحصة للكشف عن تلك التعددية في طبقات النص السردي. فالنص يحيل الى ما تراكم منه، أو هكذا هو المطلوب؛ باعتبار أن المخفي منه يوازي الظاهر منه. وهذا أيضاً أمر منوط بالقارئ غير التقليدي الذي يشارك ذهنياً في «صناعة» النص وتطويره. أي في صناعة الخيال السردي والواقعي كخيطين يتصلان ببعضهما، لتوطيد الأثر السردي وتأويله، باعتبار أن (القرّاء يمتلكون مخزوناً هائلاً من الخيال الدفين) بتعبير الروائي جون فاولز على أن ذلك الخيال الدفين يستيقظ على أثر «حادثة» السرد وليس السرد بوصفه الروائي. أي أن الثيمة الواقعية أو المفترضة؛ وقد تكون صادمة أو مفاجئة؛ تعمل على تنشيط التأويل في حاسة مثل هذا القارئ، بما يعني المشاركة الضمنية لوقائع السرد في التفسير والتأويل، وتثوير هذه المشاركة الى الحد الأعلى منها، لتتجانس رؤى الكتابة والقراءة الى حد معين. وهو الحد الذي يكون فيها القارئ قد أمسك بآليات السرد التي يقرأها ومن ثم يطورها في القراءة والتشكيل الصوري والواقعي. أي أن أهمية النصوص تتجدد بالقراءات المتتالية، مثلما نعيد اليوم قراءاتنا لكافكا ودوستويفسكي وأميل زولا، بالرغم من الفترات الزمنية التي تباعدنا عن تلك المنجزات الأدبية. لكن بحدس التلقي الجديد ذي المعارف المتجددة الأكثر صلةً بواقعة
النص القديم.
 
{6}
ليس من الصواب أن يُظهر المؤلف أسرار كتابته لأن (الكل لا يقال) برأي 
فوكو. 
إذ ينطوي النص السردي على طبقات خارجية وداخلية. ونستشف عبر هذا أن النص يتضمن هوامشَ جانبية عميقة لا تظهر كثيراً في المسار السردي، هي بمثابة الوحدات الصغيرة المخفية في النص، لكن ذاكرة القارئ الثقافية يمكن لها أن تُظهر المخفي القليل أو الكثير في استجاباتها لمعاني النص، في معصرة ذهنية وثقافية وما تخلفه الذاكرة من حفريات دفينة في لاوعي القراءة الجادة. 
لهذا يقول الناقد ميشيل ريفارتير بل ويؤكد من أنه (لا بد من العثور على النص التحتي. 
لابد من العثور على حل خارج النص، في النص الداخلي) والحلول في العادة ليست نهائية. فالقراءة إما بمساراتها العمودية والأفقية. تضمن اكتشافاتها الشخصية عبر وجهات نظر متعددة، كالعراف الذي يرسم على صفحة السماء بطرف عصاه مربعاً وهمياً يستطيع أن يستقرئ منه حسب قواعد معينة حركة طيران الطيور، كما يصف رولان بارت ذلك في صفر الكتابة. وما وجهات النظر المتعددة الا هي وجهات نظر القراءة المتباينة بين س المؤلف
وص القارئ.