ديناميّة المكان في لغة الأرض

ثقافة 2021/10/03
...

  د. عمار إبراهيم الياسري
لم تخل الدراسات السردية من ذكر المكان بوصفه الجغرافيا التي تجوس فيها الفضاءات السردية في بنية دلاليّة متآزرة ومتعاضدة، فالشخصيّات وما يحيط بها والأزمنة بتنوعاتها تؤثر وتتأثر بالمكان الروائيّ، فعن طريقه تستذكر أو تستشرف الشخصيّات أزمنة سالفة أو لاحقة مختلفة البناء، وبوساطته تتمّ عمليّات الثبات
والتحوّل التي قد تجعل منه (يوتوبيا) خالصة أو (ديستوبيا) مقيتة، ويذهب الناقد ياسين النصير إلى أنّ البئر والمقهى والغرفة والصحراء أماكن غير ثابتة وحركتها تتجاوز وضعها القارّ في الذاكرة الجمعيّة، بمعنى إنتاجها لمعانٍ جديدة عن طريق التشكيل السرديّ للبنية القصصيّة. ولو تابعنا مجموعة لغة الأرض للروائيّ علي حسين عبيد الفائزة بجائزة الطيب صالح العالميّة نلحظ تحوّلات المكان على وفق ديناميّة مختلفة المعنى والمبنى في العديد من قصص المجموعة التي تشي عتباتها السرديّة بذلك، فالقاصّ يعلنها من غير مواربة في عنوان المجموعة الرئيس من أنّ الأرض التي تُعدّ حاضنة مكانيّة، لديها لغتها الخاصة، في حين رصدت لوحة الغلاف الصحراء المحمرّة بوساطة قرص الشمس ولون الرمال إحالات مكثّفة تشي بأبجديّتها، فالجسد المستلب بوساطة تقانة (السلويت) التصويريّة السوداء يضمر في طيّاته تساؤلات جمّة عن ماهيّة الاستلاب ومنهجيّة البوح، ولم يكتفِ القاصّ بذلك بل حاول في الإهداء أن يترك أثرًا دلاليًّا مضمرًا حينما ذكر زوجته التي تحمّلت معه ما تحمّلت تحت سقف واحد في البيت والغرفة، في حين حملت العنوانات الفرعيّة لقصص المجموعة ذات الإحالات، كما نلحظ ذلك في «مدن البارود» و{لغة الأرض» و{بساتين ملغّمة»، والسؤال الذي يتبادر، هل أسهمت المناصّات السرديّة في تجسيد لغة هذه الأرض؟، وما جذورها؟، عندها يجتهد القارئ في البحث عن الإجابات الغائرة في قصص المجموعة.
وقد تنوّعت ديناميّة المكان في قصص المجموعة، ففي قصّة «أنين متوارث» نلحظ أنّ المكان الصحراويّ قد تحوّل إلى بيئة طاردة بسبب المعاناة التي لحقت بالأسرة النازحة، فالبطل السارد المشارك في الأحداث عانى من مصاعب جمّة من أجل إيجاد من تساعد شقيقته في الولادة وسط هذه القفار الموحشة، ومع الولادة المتعسّرة لم يجد ما يقمّط به طفلها سوى سرواله القطنيّ، لكن هذه الولادة لم ترسم حيّزًا مكانيًّا يحيل إلى الديمومة والخصب بعد بكاء الأم حينما أخبرها شقيقها من أنّ الطفل يشبه أباه، إذ نقرأ في الصفحة الرابعة عشرة «لم تُجب بشيء، تقاطرت الدموع من عينيها، تنبّهتُ إلى خطئي، ليس صحيحًا أن أذكّرها بزوجها الذي خطفته الحرب»، فالدموع التي تقاطرت وامتزجت مع غرين هذه القفار جعلت منها مكانًا يشي بالاستلاب الجسديّ والروحيّ الذي عانت منه الشخصيّات، في حين تحوّل المكان في قصّة «مدن البارود» إلى عوالم من (الديستوبيا) فالرصاص المتطاير من كل حدب وصوب بسبب الصراع الطائفيّ حول المدينة إلى مقبرة جثث ظاهرة، حتى أنّ السارد المشارك في الأحداث طرح سؤاله الوجوديّ في الصفحة الخامسة عشرة «مَنْ يرمي على مَنْ؟ لا ندري»، فالبطل الذي يريد الوصول إلى بيته من أجل إنقاذ زوجته وأطفاله لفظه المكان بسبب العنف الذي يسوّر المدينة، وتستمرّ معاناته بعد إصابة شقيقه الذي يرافقه بطلق ناري ما بين ثقل جسد أخيه والرصاص المحيط به لتنبثق خيوط النهاية بعد العثور على سيّارة أجرة بدت المنقذ الوحيد الذي سيخرجه من هذا الظلام، إذ يقول لصاحب السيّارة في الصفحة الخامسة والعشرين «في هذا الخراب تبخّرت الثقة بين الناس يا حاج»، في القصّتين نلحظ أنّ المكان الموحش قد شهد تحوّلًا بنيويًّا ما بين القفار الموحشة والأرض المسوّرة بأزيز الرصاص، فصوت الريح وأزيز الرصاص من أبجديّات لغة الاستلاب التي تَحَدّثَ
بها المكان.
أما في قصّة «أزيز الذباب» التي جسّدت حالات النهب التي حاقت بالمدن العراقيّة بعد سقوط النظام الديكتاتوريّ شهد المكان تحوّلًا نحو المثل العليا على الرغم من أنّ أمكنة مثل (السايلو) والسوق بيّنت مقدار النهب والسلب، إلّا أنّ البطل المتمسّك بالمثل العليا لم يُسهم في سرقة قوت الشعب بالرغم من الحاجة التي تحيط به وإلحاح شقيقه على أخذ ما يسدّ الرمق، لذا آثر الشراء بالمبلغ القليل الذي يمتلكه، وقد حاول البطل أن يشيع فلسفته المثاليّة وسط جموع السرّاق بعد أن قام أحدهم بمحاولة بيع ما سرقه مخاطبًا إيّاه في الصفحة الرابعة والثلاثين «هل دفعت قيمتها؟ هل برَّأت ذمّتك أمام الله والشعب؟»، وبالرغم من عدم قبول السارق ومن معه بهذه الفلسفة إلّا أنّ القاصّ قد أشعل ضوء الخير حينما أوجد أحد الباعة الملتزمين ببيع المواد غير المسروقة مختتمًا قصّته بمقولة الرجل «الرزاق حيّ»، فالفلسفة المثاليّة حوّلت المكان السابق من (ديستوبيا) مقيتة إلى حيّز ينطق بالخير والجمال.
في حين عمد القاصّ في قصّة «النافذة» إلى المغايرة البنيويّة للسرد حينما أعاد تركيب ذات الحكاية في ستّة مبانٍ متنوّعة، كانت النافذة البنية العميقة للحكاية، فالطرقات والأفق المفتوح بنى سطحيّة تشي بإحالات دلاليّة نحو ثيمة النافذة التي تشي بالوجود على الرغم من غياب الجسد والتعدّد البنيويّ للحكاية، هو فلسفة للحياة بثيمات متعددة، لذا تحوّل المكان إلى لغة ذات أمل وحضور، وقد تعدّدت تحوّلات المكان في القصص الباقية، ففي «منحوتة العشق» و»لغة الأرض» أشرق الخصب وعمّ النماء وفي «خطايا الآباء» و»قيامة جثّة» نواح وعويل للأم المفجوعة
 الثكلى.
تُعدّ مجموعة «لغة الأرض» للروائيّ علي حسين عبيد من المجموعات التي اشتغلت على ديناميّة المكان المتجسدّة بوساطة اللغة الإيحائيّة التي جعلت من المجموعة مكثّفة مقتصدة في وصفها وحواراتها مبتعدة عن الاستطراد غير المبرّر وهذا هو مآل القصّة الحديثة.