تريستانو يحتضر.. النضال ضد لا أحد

ثقافة 2021/10/03
...

  هدية حسين
أنطونيو تابوكي (1943 – 2012) روائي ومترجم إيطالي، درس اللغة البرتغالية بعد تعرفه وإعجابه وتأثره بالكاتب البرتغالي فرناندو بيسوا فترجم معظم أعماله، له روايات عديدة تعد علامة في الأدب الإيطالي ومنها رواية (تريستانو يحتضر) التي سنتناولها في هذه المقالة، ترجمت أعماله الى 18 لغة، نظراً لعمق ما يطرحه من آراء تخالف السائد، فنحن نعلم ونتداول من حين لآخر عبارة (التاريخ يكتبه المنتصرون). 
 
إلا أن تابوكي تناول الأمر في رواية (ساحة إيطاليا) من وجهة نظر المهزومين، ويرى تابوكي أن الحياة غير مفهومة (ومن هنا نشعر بالحاجة لمنحها قالباً سردياً منطقياً يربط الأحداث ويخلق المعنى)، وهذا الرأي عززه بكثافة في رواية تريستانو يحتضر التي نحن بصددها التي ترجمها عن الايطالية معاوية عبد المجيد وصدرت عن دار أثر للنشر والتوزيع 2013، وسنقف على آراء بطله في الحياة والموت والبحث عن المعنى العميق لغموض الحياة، إذ يضعنا المؤلف منذ الصفحات الأولى أمام بطله تريستانو، الرجل المسن 
المريض في لحظاته الأخيرة، لحظات تجمع 
رحلة طويلة تتخللها الأحداث الكبرى وحتى البسيطة في السياسة والحب والمطاردات 
ونزعة الإنسان الى الخلود من خلال ترك ما يمكن تركه لهذا الهدف، وهنا سيكون السرد هدفاً للوصول الى الخلود طالما أن الحياة ستنتهي
عاجلاً أم آجلاً.
يستدعي تريستانو كاتباً لا وجود له في الرواية ولكننا نشعر بوجوده من خلال ما يمليه عليه تريستانو وهو على فراش المرض فيطلب منه أن يكتب عنه رواية توصله الى الحقيقة والى الخلود من بعده، ويبدأ السرد على لسان تريستانو بينما الكاتب يصغي لكل تفاصيل حياته منذ طفولته وحتى لحظاته الأخيرة، من دون أن نسمع للكاتب صوتاً، ولا نشك أن الكاتب المفترض هو أنطونيو تابوكي من خلال ما تابعناه له من حوارات يطرح فيها آراءه الجريئة والمخالفة للسائد فيمليها على لسان بطله، ويأتي السرد في هذه الرواية من دون زمن تراتبي، فتريستانو يحكي حياته بما تمليه عليه ذاكرته فيقفز من زمن الى آخر، يذهب الى الطفولة ويقفز الى الوقت الراهن، يعود الى علاقاته النسائية ومشاوير العشق والغرام، والنساء اللواتي مررن في حياته مارلين ودافني وجوديتا وروزاموندا، ثم يتذكر أمراً ما حدث قبل أو بعد ذلك فيقطع الحكاية لكنها ستعود بعد عدة صفحات، ولا ينسى أنه رجل مريض يموت ببطء وسيودع الحياة فيحكي لنا عن مرضه وتفشي الغانغرينا في قدمه، ليتذكر حكاية ما ويبدأ بسردها حتى أن بعض الشخصيات تدخل الى السرد من دون تمهيد، لكن القارئ على الرغم من هذه الانتقالات السريعة لن يفلت خيوط حكاياته التي كثيراً ما تتخللها  أفكاره عن الحياة والموت بطريقة فلسفية (ليست حياة الإنسان ما قد عاشها فحسب بل ما تخيل أنه سيعيشها أيضاً) ص22، إلا أنه في الوقت نفسه يتحدث عن أمور غير ذات أهمية، فقد كانت ذاكرته تتدفق بكل ذلك السيل من الأحداث فتحمل معها الأحداث الكبرى وكذلك الأشنات العالقة، كما أن الضمائر تتغير، فحينما يتحدث تريستانو عن نفسه بضمير المتكلم، يمضي فجأة الى ضمير الغائب 
كما لو أنه يتحدث عن 
شخص آخر فيقول (كان تريستانو يحدق خلسة وفهم السؤال في بؤبؤ عينيها 
الخائف وغمغم قائلاً) ص16 و(نهض كمن يمشي في نومه فاتحاً ساعديه الى الأمل ليحمي نفسه من الشقاء الذي نزل على حياته) ص21 ثم يعود ثانية ليحكي 
بضمير المتكلم.
قد تبدو الكثير من الأحداث التي مرت بحياة تريستانو عادية، لكن النقطة التي بدأ منها نضاله وأدخله معترك السياسة ستبدو الحدث الأهم، إذ انخرط في صفوف المقاومة إبان فترة الاستعمار الإيطالي لليونان وكان قبل ذلك جندياً في الجيش الإيطالي، لقد اختار الانشقاق عن الجيش ودخول معترك المعارضة عندما شاهد 
أحد الفتيان على دراجته يقف بكل شجاعة أمام الجنود الألمان 
(كانت ألمانيا وقتها حليفة لإيطاليا في الحرب) فأخذ ذلك الفتى يصفر 
بألحان أغنية عن الثوار، فما كان من الضابط الألماني إلا أن 
يرديه قتيلاً فسقط هو ودراجته على الأرض، ولما احتجّت 
امرأة كانت ترى المشهد المأساوي لم يتوان الضابط من قتلها 
أيضاً، هذا المشهد جعل تريستانو ينتفض ويقتل الضابط 
الألماني ثم يهرب من المكان، ويتخفى في بيت امرأة 
يونانية، ولما عرفت حكايته قام اثنان من 
أصدقائها بتهريبه وإعادته الى إيطاليا لينضم من هناك الى الثوار. 
وسيكتشف تريستانو في أواخر أيامه زيف الأهداف التي ناضل من أجلها وحصل على وسام الشرف وقلادة 
الجمهورية فأصبح بطلاً 
قومياً حارب ضد الفاشية (أنا من توهم ذلك وناضلت ضد 
لا أحد، فالفاشيون ليس لهم وجود بل من صنع خيالي) ص76، ويتألق أسلوب أنطونيو تابوكي وتتصاعد وتيرة السرد عندما يتحدث يدخل بطله معترك النضال حيث يسلط 
الضوء على أوضاع البلد والساسة ومأزق الديمقراطية وزيفها، والسياسة الخارجية 
وما حل بالعالم إبان الحرب 
العالمية الثانية من دمار وخراب وجرائم كبرى ومحو مدن بالقنابل الذرية كما حدث في هيروشيما فمات الآلاف من الناس العزّل الذين لا دخل لهم بالحرب، ويسهب بالكلام عن الحرية وثمنها
 الفادح.
يقول انطونيو تابوكي في 
أحد حواراته عن سبب 
اختياره لحظة الاحتضار لتكون مرتكزاً لروايته (لحظة الموت هي اللحظة الأكثر صدقاً، تلك التي تسقط فيها كل الأقنعة، لا حاجة للعيش عندما نعرف أننا راحلون)، من حوار أجرته الشاعرة جمانة حداد مع 
الكاتب.