الحياة بوصفها نهرا.. ناجح المعموري أنموذجا

ثقافة 2021/10/04
...

  سلام مكي
 
رواية «النهر» للأستاذ ناجح المعموري المنجزة عام 1976 والصادرة عن دار الحرية للطباعة عام 1978، تعد تجربة روائية مختلفة، ومغايرة، فرغم أنها من الكتابات الأولى للمعموري، إلا أنها كشفت وبشكل صريح عن نسقه الخاص في الكتابة. المعموري في روايته «النهر» وفي باقي رواياته الأخرى، وفي كتاباته اللاحقة عن الأسطورة والنقد الأدبي والثقافي، يختلف عن غيره من الكتاب، من ناحية سعيه لجعل القارئ مساهما في الكتابة، عبر شحن النص بطاقة خفية، تجعل القارئ يغوص في عوالم النص، ويسعى جاهدا للكشف عن خفاياه، وعن علاقاته الداخلية وما يسعى الكتاب إلى قوله ضمنا. ورواية «النهر» بما تحمله من دلالات ورموز وأماكن وأسماء لشخصيات واقعية، تعبر عن مرحلة تاريخية عاشها المعموري ورسخت في ذاكرته وسعى لتوثيقها بوصفها مرحلة مهمة ومفصلية لا تخص المعموري وحده، بل تخص الذاكرة الجمعية لمن عاش في ذلك المكان. ويجعل المعموري من النهر، منطلقا لأحداث روايته التي تدور أحداثها في القرية التي ولد فيها المعموري وعاش طفولته وصباه، وانتقاله فيما بعد إلى مركز المدينة. والقرية هي «عنانه» تقع بالقرب من مدينة الحلة ومحاذية لنهر الفرات. وبين التداخل الزمني والمكاني، بين القرية «عنانه» وبين المدينة، كان النهر مسرحا لأحداث وتفاصيل دقيقة حدثت له وللأشخاص الذين كانوا قريبين منه. يفتتح المعموري روايته، بشريط توثيقي للأماكن التي مر من خلالها، والتي كانت تمثل أهم الدوائر الحكومية في مركز مدينة الحلة والتي تحولت اليوم بفعل الزمن إلى جزء من الماضي:
اتخذت من الشارع المتجه لحي القاضية، مارا بالمتنزه الصغير، حيث بناية الشرطة الجديدة ذات الغرف الكونكريتية، السراديب المتصلة مع بعضها بممرات أرضية. انحرفت باتجاه متنزه الشعب... هنا يمارس الراوي وظيفة التوثيق الروائي لمرحلة معينة من تاريخ المدينة، ويجعل القارئ يعود إلى تلك المرحلة، متخيلا الشوارع والبنايات التي لم تعد تحتفظ بشيء من ذلك الماضي. ولعل مرور أكثر من 45 عاما على صدور الرواية، يمنحها قدرا أكبر من الأهمية، بوصفها شاهدة على مسيرة مدينة، كانت يوما ما، تمثل واجهة العراق الحضارية. كما تعطي للقارئ مساحة للمقارنة بين اليوم والأمس الذي تتحدث
عنه الرواية. 
ورغم أن واقعية الرواية، من خلال ذكر أسماء الشوارع والبنايات، فضلا عن شخصيات الرواية الحقيقية، نجده يخفي بين السطور فكرة محظورة، لكنه استطاع أن يمررها على الرقيب: 
كان كاظم من أقدم العاملين في المقهى، وظل قانعا بالرغم من قلة أجوره التي يحصل عليها عن عمله منذ الصباح وحتى ساعة متأخرة من المساء... في داخله حبه للنساء مع كونه غير قادر على ممارسة فعل من إحداهن، كان يعوض إحساسه بالقصور عن الممارسة بالاختلاء ليلا مع أحد صباغي الحذية، يعطيه المرطبات ويكتفي بالمداعبة فقط.. ثم بعد ذلك يخبرنا الراوي وبجرأة نادرة عن كاظم، عبر هذا الحوار:
ــــــ هل تدري؟
ـــــ ماذا؟
ــــــ كاظم
ــــ ما به؟
ــــــ وكيل للأمن
ــــــ سمعت ذلك كثيرا دون أن يتأكد لي
يكشف المعموري هنا عن أساليب السلطة آنذاك في مراقبة ومتابعة مرتادي المقاهي والأماكن العامة، لكنه وقبل أن يكشف للقارئ عن طبيعة عمل «كاظم» عامل المقهى الذي لا مأوى له سوى المقهى نفسه، يجعل منه رجلا عنينا، بل وشاذا، في دلالة مضمرة على أن النظام وأساليبه، ستزول بزوال أشخاصه، فكاظم وكيل الأمن عاجز جنسيا، ومن ثم، لن يكون هنالك كاظم جديد، وستموت فكرته مع موته. وكان الراوي يقول بأن النظام سيزول، وفي أقرب
وقت!. 
ثم يعود الراوي بالزمن الى الوراء، حيث القرية وما كانت تعانيه من داء اسمه «الاقطاع» والذي يسميه الراوي «الملاك» وباللهجة الدارجة «الملاج» وقد نجح الراوي في جعل هذا «الملاك» ستارا لنقد السلطة.
وقصد الجميع الهور البعيد عن القرية مشيا على الاقدام. والملاك راكبا فرسه. ساروا معه، يبطئون ويسرعون، تبعا لحركة الفرس. وملعون من تأخر عليها أو تقدم عليها، فإن السوط يتراقص على ظهره حتى ينزف دما. فالراوي، ينتقد السلطة، والمتمثلة بالملاك/ الاقطاعي/ صاحب الأرض من خلال اضطهاده الفلاحين، كما ينتقد فكر السلطة الذي لا يسمح لأحد بأن يضيف شيئا أو ينقص شيئا مما تقوله، وإلا كان ظهره مسرحا لفعاليات السوط. ليس هذا فحسب، بل إن السلطة تحولت الى رقيب داخلي، يخشاها الفلاح حتى
لو كان وحده:
... ورفت بين يديه صافقة أجنحتها مخنوقة. وشعر بالحزن لملمسها الرطب، والناعم. وكم تمنى أن يحررها، لكنه خاف الملاك...
وبنبوءة غريبة من الراوي، يصور لنا مقتل «خضير» خطأ برصاص الملاك، عندما كان يرمي اطلاقاته النارية على الطيور لغرض صيدها، فحين تمت مواجهة الملاك مع زوجة «خضير» قال لها: زوجك سعيد لأنه قتل برصاصة من بندقيتي. فالنظام السابق، كان يقتل معارضيه، ثم يطلب من أهله ثمن رصاصاته.
وكلا الاثنين أفدح من الآخر. ويقول في مكان آخر: هو لا يستحق الموت برصاصة من بندقيتي، لأني خسرت بموته رصاصة، كان بالإمكان الاستفادة منها بصيد الطيور. تلك النظرة الدونية للإنسان، كانت نهجا ونسقا للسلطة، خصوصا الانسان الذي يعارضها. ولم ينس الراوي من يسند الملاك، ويلون سواد أفعاله وهو رجل الدين. قال شيخ القرية: سيدخل الجنة، فلا تحزني عليه. فلا بد من سلطة دينية تابعة للسلطة السياسية، تشرعن لها
 أفعالها. 
ولأن الحياة ليست وردية، فثمة خطوط سود، إلى جانب البيض، فإن النهر الذي كان ومازال مصدر قوة القرية، ومصدر إلهام لبطل الرواية، لم يكن كذلك حين هبط «علي» الى النهر ولم يعد: ... وشعر الفلاحون بالخوف من الماء الذي أحبوه كثيرا وانسحبوا وسط صيحات النسوة ولطمهن. 
إن رواية «النهر» لناجح المعموري، تمثل توثيقا ثقافيا وأدبيا لمرحلة مهمة، عاشها المعموري، وشكّلت انعطافة مهمة في مسيرته الأدبية، كما أنها تعد شاهدة على تجربة مريرة عاشتها القرية، في زمن كان القول الفصل فيها لما يسمى بالملاك!، الذي حوّل الفلاحين إلى مجرد آلات
بشرية.