المصائر المتباينة في قصيدة {حاول أن تمدح العالم المشوَّه}

ثقافة 2021/10/04
...

  محمد تركي النصار
 
تركز قصيدة (حاول أن تمدح العالم المشوّه) للشاعر البولوني آدم زاغافسكي على بعض التفاصيل التي يمكن لنا من خلالها تحقيق بعض السعادات اليومية، فهناك خيار التمتع بالطبيعة مثلا أو العودة للذكريات وكلاهما يمثلان مصدرا لبهجة من نوع ما خصوصا في الأوقات الصعبة التي نمر بها.
تبدأ القصيدة بالفعل (حاول) مقترحة بأن الاحتفاء بالعالم المشوّه ليس أمرا يسيرا ويحتاج الى بعض الممكنات التي تتغير في أبيات القصيدة لينتهي السعي لتحقيق التوازن بفعل أمري بعد إعطاء أمثلة متعددة عن اللحظات المربكة التي قد تزداد سوءا، إذ يسأل الشاعر قارئه طالبا منه أن يكون قانعا بما يمتلك:
حاول أن تمدح العالم المشوّه.
تذكر أيام حزيران الطويلة،
والتوت البري، قطرات النبيذ الوردية
نباتات القراص التي تكسو بيوت المنفى المهجورة بانتظام.
يجب أن تمدح العالم المشوّه.
تتألف القصيدة من واحد وعشرين بيتا من دون تقفية متواصلة أو ايقاع منتظم وهي مكتوبة كأنها مقطع واحد، البيت الأخير أقصر من بقية الأبيات ويتكون من كلمتين فقط، وهذا يؤكد الفكرة الأخيرة للنص، اذ تعود صورة الضوء علامة على أنه مهما تسوء الأحوال فإن الأمل يبقى موجودا لتحقيق التخطي والتجاوز وبهجة الانسجام.
نرى أن زاغافسكي يستخدم الوقفات الايقاعية في النص كاسرا الوزن ليخلق ايقاعا آخر، وهذا يحصل بشكل متكرر، وبالامكان النظر الى ذلك بوصفه انعكاسا للكيفية التي يريد أن يخلقها الشاعر لنركز على الايجابيات المتداخلة مع السلبيات.
تبدأ قصيدة (حاول أن تمدح العالم المشوّه) بتكرار العنوان داعيا لايجاد الانسجام في خضم الفوضى والاضطراب.
 ويتابع زاغافسكي هذا الطلب بتذكير القارئ بالامور الايجابية للعالم مثلا: أيام حزيران الطويلة، التوت البري، قطرات النبيذ الوردية، وكل هذه التفاصيل تشكل جزءا من جمال العالم.    
يلاحظ أيضا أن زاغافسكي يركز على فصل الصيف فقط باستخدام عبارة أيام حزيران الطويلة المليئة بالضوء، وتبدأ الصور السلبية منذ الأبيات الاولى حيث صورة نبات القراص الذي ينمو على بيوت المنفى المهجورة، وتحليل هذه الصورة الشعرية يتضمن جانبين الأول عدم قدرة الانسان على اخضاع الطبيعة التي تبدو هنا كأنها مصدر تهديد، لكن تضمين كلمة (بانتظام) يشير الى حالة من التعايش والقبول.       
 يظهر التغيير الأول في القصيدة مع الوصول الى البيت السادس، ويتابع الشاعر في الأبيات التالية حالات مختلفة، فاليخوت الأنيقة والسفن تبحر وتتم مراقبتها وهذا من الممكن أن يتضمن اتجاهات متباينة فنكون مرة اخرى ازاء حالة تداخل بين العتمة والضوء، السلبي والايجابي، الجميل والقبيح، فالنسيان المالح ينتظر أكثر السفن التي تغادر الميناء:
أنت تراقب اليخوت والسفن المتألقة،
واحدة منها تنتظرها رحلة طويلة 
فيما ينتظر النسيان المالح الاخريات.
لقد شاهدت المهاجرين يذهبون الى اللامكان،
وسمعت الجلادين يغنون مبتهجين
يجدر بك أن تمدح العالم المشوه.
ومن بين جميع القوارب ثمة واحد فقط تنتظره رحلة طويلة، حيث المصائر هنا تتباين، وتذكر دائما بأن هناك من هو أسوأ منك حالا ومصيرا، فثمة اللاجئون المشردون الذين لايعرفون مصيرهم، فلا هم قادرون على العودة للوطن ولا مكان بديلا آمنا يؤويهم، والصورة تتناقض بقوة مع صورة يخوت الغنى والسعادة المتألقة.
وحتى الجلادون يجدون وسائل للاستمتاع، فهم (يعملون) ويغنون، صور عديدة، غريبة، متناقضة، صادمة أحيانا يستخدمها زاغافسكي كلها لحث القراء على الاحتفاء بالحياة وتقبل تشوهات لا فرار منها.
ونرى في القصيدة دورا للذاكرة في استجلاب المتعة حينما يتذكر الشاعر (عندما كنا معا في الغرفة البيضاء) التي ترمز للسعادة، فالبياض هو النقاء والرفيف الخفيف للستائر يفتح مجالا للضوء الآتي، هنا نرى كيف تعمل حاستا البصر واللمس لتقوية وتوسيع التأثير الشعري، مقدما شخصين مسترخيين قانعين بما لديهما:
تذكر تلك اللحظات التي عشناها معا
في غرفة بيضاء ترفرف فيها الستائر
حيث الحفلة الموسيقية التي انطلقت.
أنت تجمع ثمار البلوط في الحديقة العامة 
وأوراق الخريف تتتجمع فوق جراح الأرض.
امدح العالم المشوّه
والريشة الرمادية التي فقدها طائر السمان الغريد
والضوء الخفيف الذي يهرب ويتلاشى
ثم يعود.
وتتوالى المشاهد الاخرى مثل انطلاق الحفلة الموسيقية، وجمع ثمار البلوط في الخريف لتحفيز القارئ على الاستمتاع بجماليات الحياة والتعايش مع تقلباتها وايجاد الانسجام برغم كل العواصف والاضطرابات.