العرض المسرحي والمخيال الثقافي

ثقافة 2021/10/05
...

 د.أحمد شرجي
 
العرض المسرحي مبني على الخيال، ­خيال صناع العرض­ وتتشكل أنظمة علاماته وفق ذلك الخيال، وإذا كان العرض المسرحي متخيلا، فلأنه علامة ليس إلا، كما يقول أمبرتو إيكو. والسؤال هنا هو: هل العلامات التي يصدّرها العرض علامات متخيّلة؟. 
يؤكد إيكو أن «العديد من العلامات ليست تخيلات وذلك بمقدار ما تدعي، على العكس من ذلك، أنها تشير إلى أشياء توجد حقيقة كما تعينها وتدل عليها»، إن العرض المسرحي يتشكل علاماتياً بناءً على مرجعية علاماته الثقافية، ويشكل المجتمع المؤسسة التي تعمل بدينامية لإرسال العلامات التي يحملها العرض. ولا تحيد هذه العلامات عن مبدأ الاتفاقية، سواء بين المخرج وثقافته التي ينتمي إليها، أو بين المؤلف وثقافته. لكن هذا لا يلغي المبدأ التخيلي للعلامة، رغم أن العقل المنتج لها يرتبط بمرجعية ثقافية واجتماعية، بمعنى آخر: إن العلامة متخيلة ومستمدّة من السياق الاجتماعي والثقافي. فهي خيالية، وفي الوقت نفسه نتاج اتفاقي فرضه المجتمع والثقافة كمؤسسة إنتاجية، تؤسس الدوال Signifiahts التي يفترضها الخيال. وتتظاهر العلامة المسرحية بأنها ليست علامة، لأن الأمر يتعلق (بخدعة)، أي: علامة تعمل لإيصال شيء ما لا وجود له، فالعلامة المسرحية «تنتمي إلى جنس العلامات التي يصنفها شخص ما كعلامات طبيعية لا مصطنعة، مبررة اعتباطيا، تماثلية لا اصطلاحية». 
وإذا سلّمنا مع إيكو بأن العلامة المسرحية تحول العلامات المصطنعة إلى علامات طبيعية، فإن ذلك سيضعنا أمام إشكالية كبيرة، لأن العرض المسرحي يخضع دائما لمبدأ الاستعارة والإبدال. فالمخيال الجمعي يتعامل مع العلامات وفق مبدأ الاتفاقية وليس الاستعارة، إذ يعمل المخرج على تحويل العلامات الطبيعية (استعارة) التي يحملها النص إلى علامات اصطناعية (إبدال). 
ويحول المتفرج لحظة العرض الاصطناعية (إبدال) إلى علامات طبيعية (استعارة)، والعكس غير صحيح عند إيكو، لأن العلامات الاصطناعية التي يحملها العرض المسرحي، علامات طبيعية بالدرجة الأولى. بمعنى آخر: إن العملية تخضع لآليَّة التركيب والإبدال، ولا يمكن أن تعمل بعيدا عن هذه الآليَّة. ولهذا شبه إيكو العرض المسرحي بـ (سكير بورس)، الذي يصدر علامات مختلفة فرضتها حالته أثناء فقدان الوعي. والعمل بـاللاوعي ­ (حالة السكر) وفقدان التوازن، وما يصدر عنه يحيل على علامات يفسّرها المتلقي للتدليل على وضعيته أثناء السكر. فترنّحه الخارجي وعدم التوازن الحركي الذي يتصف به، يمثل أمارة Symptome للاستدلال على حركة الشخص السكير ويؤولها المتفرج من دون صعوبة تذكر. ولكن هذه العلامة لا يمكن أن تكون قصدية من قبل السكير، بل فرضتها الحالة الظاهرية له، والشيء ذاته ينطبق على ما ينطقه من علامات لفظية وإشارية. 
يصعب أن يتشكل عرض مسرحي علاماتياً بمعزل عن الاشتراطات الدرامية. ونعني بالاشتراطات الدرامية: القوانين الدرامية والفعل واللغة وبلاغة الحوار وإشكالية الخطاب. فلا يمكن تصور سيميولوجيا للمسرح لا تأخذ في اعتبارها تلك الاشتراطات، كما يؤكد كير إيلام على أن «أي شاعرية للدراما لا ترجع إلى شروط ومبادئ العرض ليس من المحتمل أن تكون أكثر من ملحق شاذ بسيمياء الأدب إلا فيما ندر». فمع جماليات السيميولوجيا، يتم التمييز «بين الذات والموضوع. الذات أو الفنان (1) يخلق العمل الفني، الذي يشكل وجوداً وكياناً مستقلاً عنه، وذلك تحت شرط أن يقوم المتلقي (2) بتلقي العمل الفني، ومن ثم تفسيره وتأويله، وهذا يعني ­وبمساعدة التقاليد الفنية المتوارثة­ أن العمل الفني كموضوع مستقل يضمن الاشتباك والجدل مع المتلقي؛ لاكتشاف أبعاد ومستويات جديدة للمعنى والبنية مراراً وتكراراً؛ مما يعني بدوره خلق أثر فني ما لدى المتلقي». 
ومن هنا فإن السيميولوجيا تميز بين (الذوات) التي تخلق العرض المسرحي، والمعروض (الموضوع)، فعملية التلقي لا تكتمل إلا بوجود متلقٍ واعٍ يفسّر ويؤول علامات العرض، من أجل اكتشاف مستويات جديدة للمعنى والبنية. إن استقلالية العمل الفني تضمن عدم التشابك بين العرض والمتلقي. بمعنى آخر: لا بد أن يتوفر العرض المسرحي على ما يمكن فهمه وإدراكه من قبل المتفرج، حتى لا يدخله في متاهات ثقافية لا يدرك كنهها، لأن العرض المسرحي سياق معقد من العلامات. إن العملية اتفاقية في جوهرها، لأنها رُكّبت وفق مبدأ الشراكة والاتفاق بين أطراف اللعبة (العرض المسرحي)، ومن ثم يحمل العرض المسرحي ثقافة مؤديه وليست ثقافة الدراما بوصفها نصا. ولا تعمل العلامات ثقافيا داخل النص المسرحي بمعزل عن الخطاب اللغوي، لأن الشبكة العلائقية لكليهما تشتبك داخل نسيج ثقافي، لكونها تتواجد داخل النص كمدلولات للملفوظ، كأن كليهما وجها الورقة بالنسبة للدال والمدلول عند دوسوسير.