مدخل الانتظار في (عصاي خرساء... ودليلي أعمى)

ثقافة 2021/10/06
...

 د. أحمد جاسم الخيّال
 
الشاعر الكواز شاعرٌ منتظِر، يقيم طقوس انتظاره داخل القصيدة، ويفتح لنا عوالم شعريّته السائلة بلغة مُبصرة لا مرئية تنمو باستمرار وتتوهّج وتتماهى مع اللامرئي من الأفكار والأحاسيس، والانتظار قبس وجودي ومحاكاة للمفقود ورثاء للنفس في قصائده، فنادراً ما تجد قصيدة للكواز تنأى عن محاورة الانتظار، وهذه الثيمة الشعرية ليست عابرة إنما هي متأصلة في تجربة الشاعر، وهي مرجعيّة ثابتة من مرجعيات الحلُم في قصائده.
 
 يقول:
(أنا من قبيلة بكّائين
كيف أُمكّنك من حوار دموعي؟!
وهي بريئة من انتظارك
كيف هو انتظاري لك؟!
ظلالي لا تقوى على الانتظار
الشمس تنكّرت لاسمي القمري
فزادت يأسي حيرةً).
 
    الشاعر في حيرته يبقى محاوراً انتظار الذي لن يأتي، هناك في قلبه وجود مثالي لا يمكن أن يكون في الواقع، وهو دائماً يناشد هذا الوجود بالحضور، يتطلّع إليه ويستمدّ منه غليانه الشعري، وأيضاً بكاءه المستدام حتّى أصبح من البكّائين، ويحاور دموعه من وراء الحجب حلُم الرغبة بالوجود، رغبة الشاعر بالتكامل خارج أسوار وقيود الممكن الرتيب، فعالمه الذي يبحث عنه لا يشبه هذا العالم الذي يعيشه، لذا هو يستأنس بالحوار معه، ثم يستأنف الكلام بلغة شعرية متوهّجة وحقيقيّة تملأ نفسه بيقين التواصل الذي ينتظره: (كيف هو انتظاري لك؟!)، استفهام عرفاني شديد الحساسية كأنه يشعر بالتقصير من انتظاره، كأنه في حضرة الربّ، لذا أراد أن يطمئن قلبه بأن انتظاره المقدّس قد حقّق الرضا لقلب محبوبه رغم ألم الانتظار وقسوته، وهو غاية ما يريده الشاعر من انتظاره أن يكون لائقاً بالحبيب، وهذه الخشية منحت النص دلالات روحانية صادقة تكشف عن تجربة عميقة صادقة.
     قلق الشاعر الكواز لا ينتهي، وببصيرة أعمى تماهى في الغياب عن الواقع ليرسم حلمه على جدار غير مرئي إلا لعينيه الذابلتين من الأسى، فالحلُم هو المقدّس وهو الذي يجب أن يكون بديلاً للواقع المرير، فابتدع عالمه خاص مبتعداً عن نشوز الحياة وسخريتها وعبثيتها، وقد هيّأ كل شيء من أجل البقاء على قيد هذا الحلم بعد موته، يقول:
 
 (لقد أخبرت أمي:
- أن تدسَّ مفتاح قبري في كفني
- أن تهيّأ لي عدّة الكتابة
- أن ترسم صورتك على جدار كهفي
- أن تدهنني بدهان عاشقة
- أن تبكي على حسرتي بصمت
(الصراخ لا يليق بقتلى الحب)
لا تنسني
فأنا في انتظارك كلّ فجر
هاتفي وسماعتا أذني وقلمي وأوراقي
لقد نَسِيَ الدفان أن يغلق قبري
بشمع أدعيته الكبرى
(عفوا تناسى بعد رجاء فاختة المقبرة)
سأنتظرك).
 
الشاعر يتماهى مع لغته وأدواته الأسلوبية ليصنع لنا ميثولوجيا خاصة به، فهو يتجاوز فكرة الموت ليؤثث قبره محطّة انتظار، كأن حياته لا تكفي لانتظاره المقدّس، فأوصى أمّه أن تعدّ كل شيء من أجل أن لا ينسى ويبقى منتظراً كلّ فجر إطلالتها، حتى أشياؤه البسيطة ويوميّاته الهامشية تمارس طقوس الانتظار
معه.
فكرة الانتظار من الركائز الدلالية المهيمنة في مجموعة الشاعر، وهو مشدود معها نفسيًا ومتعلّق بها وجوديًا، لتكون مرجعًا مهما لفهم الشاعر وفهم آليات اشتغاله الشعرية، وهي ترشدنا إلى أن الشاعر قد عانى من الفقد وما زال تكوينه العاطفي يشتدّ نتيجة ذلك، وأنه يحلم بواقع مثالي تختفي فيه الحدود والقيود الفيزيائية التي تصطدم برؤيا الشاعر الهائمة المتجاوزة لها، فالانتظار بوصفه فكرة عاطفية تحوّل الى انتظار عام يأمل الشاعر أن يمنح الانسان تجلّيه للوصول إلى الحقيقة والتسامي المطلوب، يتجلّى ذلك في قصيدته:
 
(حضورك أفق أيتمته النجوم
موتك حياة
ظلالك ضوء
رجسك وضوء
فمن يفرك روحي لتسيل عند بابك؟
أنت أغنية حزن
ورغيف صلاة
فكيف أخرج منّي إليك؟
حائر أنا
أيصير صمتي دمعًا لمرقاك؟
أوهامي ما زلت
مستغرقًا بتلفّتها
كي أجد ضوءاً وأمسك ظلّي به).
 
 إن محاكاة الشاعر لهذا الحضور المؤجّل يشتدّ لأنه يمثّل الحياة والنور والطهارة، وهو في انتظاره ينصهر أمام هذه الباب التي ترمز للخلاص من كل ما هو وهم وماديّ، فروح الشاعر جائعة لرغيف يأخذها إلى مآلها الحقيقي ليخرج من حيرته وشكوكه وعطشه، وهو يتساءل بعد أن تعب من الانتظار عن كيفية الخروج من قيود الجسد ليتحرّر، لذا صاغ استفهامه معبّراً عن حيرته ورغبته ((فكيف أخرج منّي إليك؟).
 لم يقف الكواز مكتفيًا بانتظاره، بل حثّ نفسه على السعي والبحث عن طريق توصله للضوء، فهو قد يئس من صمته ودمعه وأوهامه وعليه أن يجد نفسه ويزرع ظلّه في بهاء ذلك الضوء الفسيح ليحقّق وجوده.
 فالحلُم من أهم الوثائق السريّة في مدوّنات الشعراء المعاصرين، ويعود ذلك لأسباب كثيرة، من أهمّها غربة الشاعر عن واقعه التي يتجّه نحو الماديّة بشكلٍ غير مسبوق، لذا فالشاعر يبقى صوت الضوء في هذه المسافات الغافلة عن الحقيقة والمنغمسة بالوهم والميكانيكية بعيداً عن الروح وطاقتها.
 وقد استطاع الشاعر بإحساسه الشفيف أن يخترق كثافة العزلة محاولاً النجاة من طوق البقاء الساكن ليرسم لنا عالمه المثالي مدوِّنا حلُمه من خلال مدخلي الأسئلة والانتظار، وهناك مداخل أخرى لم يسعني أن أدخل لها تكشف حقيقةً عن تجربة الكواز في بناء شعريته العالية التي تدعو للحبّ والسلام، فدراسة مرجعيات ثقافة الحلم لها أثرها في الكشف عن تجربة الشاعر وعن أهم سماتها الدلالية والوجودية، وبذلك تمنحنا فرصة قراءته وفهمه ومحاورة العشب الأخضر في عالمه المتخيَّل بعيداً عن غبار
 الواقع.