الخلل

ثقافة 2021/10/14
...

 كامل عويد العامري
 
يبدو أن عنوان هذه الرواية (L’anomalie) للكاتب الفرنسي هيرفي لو تلييه، والتي نالت جائزة غونكور 2020 قد يكون: “الخلل” وهو العنوان المناسب بدلا من معاني الكلمة التي هي على وجه الدقة: وأولها الشذوذ، والخلل، والعيب، أو النشاز. فهي رواية تغازل الاجناس، وتداعب العلم، لتحتضن اللاهوت وتجادل في الفلسفة، وهي مكللة بهالة من النثرية وعنفوان حياة.
الرواية بإيجاز شديد: “هناك شيء واحد مثير للإعجاب يتفوق دائمًا على المعرفة والذكاء وحتى العبقرية، وهو سوء الفهم. في يونيو 2021، حدث مجنون يقلب حياة مئات الرجال والنساء رأسًا على عقب، وجميعهم ركاب على متن رحلة بين باريس ونيويورك. من بينهم: بليك، رجل عائلة محترم ومع ذلك فهو قاتل محترف؛ وسلمبوي، نجم البوب ​​النيجيري، الذي سئم العيش في عالم كاذب؛ وجوانا المحامية الهائلة التي وقعت في شرك إخفاقاتها. وفيكتور ميسيل، كاتب سري أصبح فجأة كاتبا معبودا. كان الجميع يعتقدون أنهم يعيشون حياة سرية. لم يتخيل أحد إلى أي مدى كانت
صحتها.
أقلعت الرحلة رقم 006 من باريس في مارس - آذار، وهبطت بأمان بعد بضع ساعات في نيويورك؛ وفي حزيران من العام نفسه، طلبت ذات الرحلة 006، مع نفس الطاقم والركاب، بدء هبوطها في نيويورك. لكنها منعت وحوّل مسارها إلى قاعدة عسكرية حيث تمت رعاية الركاب وأفراد الطاقم من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي وغيره من الوكالات والمنظمات الأميركية المعروفة. لايفهم المسافرون حقًا ما حدث لهم، كلما هنالك أنهم تعرضوا لعاصفة بَرَد ضخمة أثناء الرحلة، لكن فجأة عاد الطقس إلى طبيعته. وبقدر ما يمضي الوقت، اعتقدوا أن آذار هو حزيران. ومن المثير للدهشة أنهم وصلوا جميعًا في شهر آذار واستمروا في حياتهم. والآن كل مسافر يشعر بوهن كامل، ما لم يكن مزدوجا، أو مستنسخا، أو مكررا. وضعت السلطات البروتوكول 42، موضع التطبيق بشأن الرحلة. لأن الوضع، في الواقع، غير مسبوق. ويعود وضع البروتوكول 42 إلى أكثر من عشرين عامًا، إذ تم تكليف اثنين من الطلاب الشباب المتميزين بمهمة مراجعة وتعديل قيود القيادة في حالة وقوع كارثة. كان ذلك بعد صدمة
11 سبتمبر. 
يسمح هذا الأساس الخيالي للكاتب ببناء قصة وقصص. إذ يثير التاريخ ازدواجية مؤلمة في المناقشات، فقد وجدت الشخصيات فجأة من خلال مساراتها المنقطعة عن أي تفاعل إعلامي في البداية، ما يشبه القدر في وجودها. فالوافدون في شهر حزيران هم “أصغر” بثلاثة أشهر من نظرائهم في شهر آذار. إنهم صريحون وسيتعلمون مواجهة أنفسهم، ففي غضون ثلاثة أشهر تغيرت حياتهم، للأفضل أو للأسوأ على حد
سواء.
  انتحر أحدهم لكن غروره الآخر لا يزال حيّا، وواحدة الآن حامل بينما زوجها لا وجود له، انفصل زوجان في يونيو/ حزيران ولكن ليس في مارس/ آذار، ستتمكن فتاتان صغيرتان هما الفتاة الصغيرة ذاتها أخيرًا من التحدث إليهما حول سر لم يتم الكشف عنه، طفل صغير يجد نفسه مع اثنتين من أمهاته، إلخ. هل يمكننا العودة إلى ما تم إنجازه؟ هل يمكن التراجع عما فات وتحسينه؟ وهل هناك رغبة بذلك؟.
يحشو الكاتب نصه بتلميحات أدبية واقتباسات مختلسة، وأحيانًا يمزجه بالرواية السوداء، إحدى الشخصيات يقتل نفسه ويقطعها واخيرا، لا يقتل نفسه ولا يقطعها، بل يقتل شخصيته، أو صورته، أو نسخته، ولكنه أخيرًا، لقد قطع نفسه، مع الحرص على تغطية مكان الإعدام والمجزرة بغطاء بلاستيكي.
كعضو في الـ Oulipo، وهو معهد أدبي يدعو إلى الابتكار من خلال اللغة، يحرص هيرفي لو تلييه على إرباك قارئه، ونقله إلى مكان آخر - ولكن إلى مكان له نكهة محلية. في هذه الرواية، يتساءل المؤلف عن عدد من الإنجازات، ولكن ليست الإنجازات النحوية أو اللغوية، حيث سعيه وراء المفاجأة قد يدفعه إلى القيام بذلك، ولكن الإنجازات الدينية والعلمية
والفلسفية.
إنه يشكك في إنسانيتنا من خلال ما هو مبتذل، وينطلق من التافه إلى الأرض البعيدة والغريبة. كل شيء يبدأ برحلة، رحلة تجارية من باريس إلى نيويورك، والتي تربط أيضًا أبطال هذه الرواية بمنظورات متعددة. إذ يجتمع كاتب ومغنٍّ ومهندس معماري وصديقته وفتاة وأسرتها ومحامٍ وطيار يحتضر وقاتل محترف وغيرهم. يتحدثون مع بعضهم البعض، ويتشاركون في سوء فهمهم، وندمهم، والقارئ يتصفح حياتهم، مثل إله كلي القدرة ولكنه منزعج للغاية من الموقف، ومن حياتهم السرية التي لم يكن لهم أن يتخيلوها بمزيد من السرية- التي تتكشف الآن، ولكن لم يتضح اللغز. 
تكمن الفكرة الكاملة في الرواية في التأمل الذي تقترحه، وفي الأسئلة التي تطرحها التي تحاول الإجابة عنها بخجل، على الرغم من أنها تترك الباب مفتوحًا أمام فرضيات مختلفة ومن المؤكد أنها كثيرة. يمتزج العلم والفلسفة واللاهوت، تتعايش وتردد صدى بعضها البعض، ومن دون أن يتعدى أحدها على الآخر. في مواجهة مع الذات الحقيقية، وهنا يتلاعب الكاتب بيقيننا ليسألنا عن مكانتنا في المجتمع. لكن المعضلات موجودة دائمًا بمجرد الكشف عما حدث على متن الطائرة، وعن الخيارات المؤلمة التي نتجت عن ذلك: ماذا لو ...؟ ما الذي يستحق القتال من أجله إلى حد التضحية؟ ما الذي نحن على استعداد للتخلي عنه؟ متى يكون من الصواب للاستسلام؟ ما هو الأساسي في حياتنا؟
- نالت الرواية ثلاث جوائز: غونكور، ورينودو، ومدسيس.