زيد الشهيد
بين رقصةِ الإبرةِ العمودية وتكتكةِ العَتلةِ المدارةِ بقَدمٍ يهتز يتحرك الخيط بقفزاتٍ كأنها العتعتة في جسدٍ نافرٍ ليبني عالماً ثيابيّاً يغدو مثار العين وبهجةَ للنفس بعد أنْ كان مجرد قماشة تقاس بالأمتار وينظر إليها بجمودٍ حيادي. تَتك الماكنة وتروح النفس الذائقة الذواقة للعاملةِ الخيّاطة تجسد ما هندست من تفصيلٍ لتصنع ما يرضي الجسد المنتظِر ويشبع نزوعَ النفس الواقفةِ على شاطئ التطلع، التائقةِ نحو الجمالِ المرجو، الراغبةِ في كسبِ لآليء الإعجاب من لدن العيون المتطلعة صوب المقارنةِ أو البحثِ عن الجمالِ لتتمثله فتأخذ به إلى الأجسادِ المتحفزةِ لمن يبدع في إظهارِها أكثرَ فتنةً وأجل جمالا.
وبمجردِ ذكرِ ماكنةِ الخياطة تقفزُ إلى أذهانِنا أولئك النسوة الصابرات المكافحات في حوارينا الفقيرةِ المُعدَمةِ اللائي واجهن صدمات الزمنِ يوم انكبَّ القدرُ على سعادتِهن فقضى على الزوجِ المُعين أو الأبِ الناصر، أو الأخِ الشفيع؛ ووجدت أولئك النسوة أنفسَهُنَّ أمامَ أنيابِ الفقر الهاتك. فإمّا أنْ تتمزق الأسرة وتتشظى وإمّا أنْ يبقى الشملُ مُلتمَّاً ولكنْ على حسابِ نفسٍ تقف أمامَ القرارِ الصعب لتتَّخذَ القرارَ الصعب كيما تأتي النتيجةُ اعتماداً على الصبر والتضحية والشجاعة وشحذِ الجهدِ المتواصل ليلَ نهار على ماكنةٍ تكون أداةَ القرار في الإبقاء. فتروح تلك النفسُ للمرأةِ المكافحةِ تغذُّ الخُطى حارقةً سنواتِ العمر وجذوةَ الشباب من أجل أنْ يشُبَّ الأبناء أو الإخوان ويمسكوا بصولجان المستقبل الهانئ المستقر. فترى المرأةُ ذاتُ القرارِ الصعب جهدَ الأعوام وقد أثمَرت، وسهرَ الليالي وقد أعطَت منتوجاً مُبهراً، ولكنْ على حسابِ جَسدٍ كلكلَ، ونظرٍ ذوى، وعمرٍ فقدَ الكثير من بريقه وانتهى ألقه؛ بيدَ أنَّ العزاءَ يبقى في الصبرِ والمدى الكبير الذي تحمَّلته الصابرةُ على ثقلِ الزمن، ويبقى في تقدير سعةِ الجهد الذي بذلته وبالتأكيد هو مضاعفٌ أضعافاً متراكمة، ذلك أنَّ اللهَ سيجزيها بفردوسِه وسيمنحها رضاه؛ وكل تكّةٍ في الماكنةِ، وكل صعودٍ للإبرة ونزول في بطنِ القماش الآيل إلى ثوبٍ ناجز سيهبها البارئ نفحةً من طيب وفاكهةً من رياض جنائنه.
والماكنة رديفة الخياط الذي يصاحبُها في إنجازها الحثيث تخلّت عن رفيقها وتجاوزته؛ ذلك أنَّ العقل الذي صنعها آثرَ ألا يقرّبها من قرينها، وعمل على فصلهما بأنْ جعلها آليةً تُحرّكها عتلةٌ جامدة فلا تحس بعد ذلك بحرارةِ الكفِّ التي تديرها، ولا باحتكاك القدم التي تعجّل في دورانها المُنغَّم. صار العلم الذي خلقها يوماً ما وأغدق حنّوه عليها هو الذي فصلها عن قرينها. وصار ذلك الود المتبادل في ما بينهما من عِداد الذكرى. صارت حقبةُ رفقتهما تاريخاً نحتَ الزمن جذوتَهما واحتراقَهما وانتاجَهما جزءاً من تاريخ. وصرنا نرى آلاتٍ عملاقةً بمقارنتِها مع الماكنة الأولى تفصّلُ وتقصُّ وتخيِّطُ وتنتهي من العمل؛ فإذا المنتجُ ثوبٌ ناجزٌ أو فستانٌ كاملٌ أو بدلةٌ تحتفي بوجودها.
ـ