انفتاح النص في {إليكِ مع سبق الإصرار}

ثقافة 2021/10/17
...

  علوان السلمان
 
 لقد شهد النص الشعري تحولات وطفرات فنية وفكرية تساوقت والتحولات الحضارية على مدى الامتدادات التاريخية.. ابتداء من عمود الشعر (صدر وعجز).. ومرورا بشعر التفعيلة المطلق (الحر) الذي خلخل الشكل الايقاعي الفراهيدي وتجاوز حدود المعاني.. فصارت الوحدة كيانا متفردا قائما على وحدة تؤلف بين عناصر النص وتقدم موضوعها بطريقة ايحائية متحققة من استخدام التكنيكات الفنية المستلة من اللغة الشاعرة والصورة الشعرية والرمز والموسيقى (الداخلية المنبعثة من بين ثنايا الالفاظ والخارجية المنطلقة من مبنى النص، فضلا عن المفارقة والتقانات الفنية كالحوار الذاتي (المونولوج) والتنقيط (النص الصامت) الدال على الحذف والمسكوت عنه.. والتكرار النمط الصوري والدلالة النفسية التي من خلالها يفرغ الشاعر مشاعره ليعيد التوازن ويكشف عن ايقاع داخلي مؤكد للحالة النفسية والانفعالية للذات الشاعرة.. فكان لهذا التحول أثره الفاعل في انفتاح النص على المستوى الجمالي والفني والأسلوبي وكانت قصيدة النثر المقطعية التي شكّلت نسيجا متماسكا بين الشعر والسرد فكوّنا وحدة عضويّة متكاملة بين جسد نثْري وروح شعريّة شفّافة صارت شاهدا إبداعيا على تشكيل نمط تعبيري متميز بمعطياته الفنية وتقنياته الشكلية التي تستوعب التجربة والرؤيا بشكل معاصر ومساير للحركة الحياتية ومتطلباتها، كونها منظومة شعرية متمردة على الزمن ومتجاوزة للقوالب الجاهزة.. وكل هذا يعني أنها تمتلك القدرة للخروج على الثبات مع جمعها لجماليات شكل القصيدة (الصورة والتخييل والرمز والرؤية المكثفة سياقيا وتركيبيا وتوهج اللفظ مع وحدة موضوعية وعمق الرؤيا وشفافيتها..).. فالقصيدة القصيرة والقصيرة جدا (نص الصورة).. المتميز بالتكثيف والايجاز وقصر العبارة المحققة لتقنية الانزياح مع ضربة إدهاشية مفاجئة.. فالنص المفتوح الذي هو الدلالة والمعنى الذي ظهر الحديث عنه لأول مرة منذ ستينيات القرن العشرين على يد جوليا كريستينا عندما تناولت مفهوم النص المغلق.. والذي وجد حاضنته بين يدي الشاعر الفرنسي (سان جون بيرس) في (ضيقة هذه المراكب).. اذ جمع الشاعر فيه أجناسا أدبية متفاوتة مع انفتاح على الانسان وقضاياه الوجودية والاجتماعية برؤية منسجمة مع العصر الحديث ومعطياته الحداثية..
وأنموذجنا المقترح لهذا النوع المجموعة الشعرية (اليك مع سبق الاصرار) التي نسجت عوالمها النصية انامل منتجها الشاعر زهير بهنام بردى، الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق كونها نصوصا توحي أكثر مما تصرّح وتصدم أكثر مما توافق، فضلا عن تعانق خصائص السرد بأسس الشعرية العميقة مع تميز متفرد بجماليتها ومعطياتها الفنية ورؤاها التقنية كونها منظومة شعرية متمرّدة على الوجود متحلية بسمات التفرد فنيا وبنائيا.
(أتسلل بلمح ظني الى طقوس شفتيك وبأشكال عدة.. ثملا أقبض على كلام يخرج واحدا تلو آخر مني.. أسير وأحسب الطريق إليها لا يخيب ظني، وبرعونة أغرق في أكثر من شبر ألذ من الموت.. منهما ومما تعلمت من حياء وما كنت بذيئا إلا قليلا، فاسدا كنت وأنا أخط أبجدية أخطاء بالصدفة، تعثرت بها.. خلتها فراشات وخاب ظن عاشق في جسدي.. من كثرة استخدام الأصابع في إغواء حرصت أن اكون مع الرغبة، وأضعه في غبطة جسدي وبكامل صراخي..) ص56
   فالشاعر لا يتعامل مع الأبجدية وحدها في بناء نصه بل يتعامل مع جماع المؤثرات التي يتلقاها جهازه العصبي (اللون- الحركة- الصوت- الفراغ..) فضلا عن المعنى.. ليخلق نصا يقوم على الحلم والخيال والدهشة والانفتاح والمغامرة، فضلا عن محافظته على البنية الاساسية للشعر (الايحاء والاستعارة والتصوير الشعري المكتنز بدلالته المفتوحة على الفنون والآداب التي تسهم في بنائه والتي تحقق جماليته في التحرر والانطلاق في آفاق اللفظ والتركيب.. إنه نص يتميز بجماليته ومعطياته الفنية ورؤاه التقنية كونه منظومة متمرّدة على الوجود جعلها تتحلى بسمات التفرد فنيا وبنائيا.. شكل تكوينا دائريا مفتوحا انتهى بما ابتدأ به من (الظن)...
  فالنص يسعى الى تقويض القصدية وإلغاء الفوارق الاجناسية لذا فهو يقوم على تشكيلة شعرية نابضة بالصور التي تتشكل وتتلون وتتموسق ليتسع نطاقها فتمتدّ أفقيا وعموديا، فضلا عن انه لم يخلُ من المحسنات البديعية والاساليب البلاغية كالجناس والمجاز والاستعارة والتشخيص والتّخْييل والرمز والتلميح والإيماء.. مما اضفى عليه الطابع الحركي المشاكس مع تعددية المعنى، فضلا عن اعتماد الشاعر جملة من المظاهر الاسلوبية والفنية المتجاوزة لمألوفية الأنماط الشعرية الشائعة بدءًا من اللغة المتكئة على الالفاظ اليومية الموحية التي اسهمت في خلق تراكيب نابشة لذاكرة المتلقي لاستنطاق ما خلفها.. ومرورا بالتكرار والتنقيط والاستفهام..
 وبذلك استطاع الشاعر من تحقيق تجريبيته وفق المستويات الاسلوبية والبنائية والدلالية، بوعي مسبق لقدرة وأهمية تلك المستويات في تجاوز المألوف على الصعيدين الذاتي والموضوعي باتجاه تخليق تجربة نصية تحتفي بخصوصيتها الآنية التي تخلط الحياة باللغة وتزاوج المعنى والمبنى.. ويلعب فيها كل من التنقيح والطبع دورهما.