ماكس بيكارد.. وجهة مقارنة

ثقافة 2021/10/17
...

  عبد الغفار العطوي
 
بالصدفة، وأنا أبحث عن مراجع موثوق بها، لها ارتباط بمباحث كتابي الذي لم يكتمل بعد منذ مدة (الله والعالم) وأخطو بكتابته مثل السلحفاة التي لا يتوقع لها أحد الفوز على البطل اليوناني (آخيل) عثرت على ماكس بيكارد (1888-1965) في مجلة تعنى بالهموم الفكرية الإسلامية المختبئ عن أنظار الكثيرين، ممن بات يقلقهم الشعور بالمعاناة والألم، ولا يجدون فكاكاً ولا حلاً لهذا الشعور، ويأسرهم العيش بالقلق كما استبد بالفيلسوف الوجودي سورين كيركجارد (في كتابه مفهوم القلق) بيد أن قراءة بيكارد بهذا الوقت العصيب (2021) وهو الكاتب والفيلسوف واللاهوتي السويسري الألماني ترجعنا إلى المربع الأول، فبيكارد بات شائعاً في كتاباته اللاهوتية التي تمس العمق المأساوي للفرد المعاصر في الغرب، حيث  أطلق عليه اسم (ضمير أوروبا) لمكانته ومنهجيته وكتاباته المتميزة والمهمة في اللاهوت المعاصر، فقد بحث في القضايا الحساسة منذ عام 1919 في مقالاته، لكن إغفاله من قبلنا نحن حرمنا من أن نحقق قدراً بيناً من التعامل مع الموضوعات التي تعرض لها في مؤلفاته، حتى نفهم طريقة الطرح الدقيق لقضايا في الإسلام تشبه ما ناقشه في كتبه ككتابه (الهروب من الله) 1934، ثم أردف بعده كتابه (عالم الصمت) عام 1948، اللذين يقربان القضايا التي نعانيها في عالمنا من طاولة النقاش عن الإكراهات الثلاثة التي تحول من دون هروبنا إلى الله، وهي التي تمنع من أن نصل لما وصل إليه بيكارد في تلكما الكتابين بالفهم الغربي ولعل كتابه الأول هو الذي أكد بيكارد من خلاله فكرة الهروب من الله في كلامه إن السبب في الانفصام الذي يعانيه الإنسان الغربي المعاصر في إطار المسيحية هو طرح الإنسان في الغرب لها والإيمان المسيحي، جانبا كأنهما لا ينتميان إلى هذا العالم (م ن ص 192)، وبعد الذي حدث من التشرذم عند الإنسان الغربي في القرن العشرين كان نتيجته الهروب من الله، ولعل التكلم عن فلسفة بيكارد ستكون المدخل نحو فكرة فشلنا في الهروب من أو إلى الله في تشرذم وعينا الإسلامي المعاصر، على شرط أن فكرة الهروب عند الإنسان الحديث تختلف عن سابقاتها من العصور الماضية على السواء في الجانبين، بافتراض أن الأساس المعرفي لكلا الجانبين هو التوجه لتلك الفكرة، فكرة الهروب من/ أو إلى الله، مع وجود الاختلاف، إن الهروب من الله في المنظور الغربي يكون داخل اللغة (سواء في عالم الصمت أو الكلام)، فمبحث التواصل ومسألة اللغة) في العقبات التي واجهت تحقيق ذلك كان قد تركز على مفهوم التواصل واللغة التي تعمل على وضع الانشغالات الفلسفية بالدقة المطلوبة،
وفي الفعل التواصلي النقدي والأتيقي للعقل الغربي نجحت فكرة الهروب من الله في تلبية حاجات الإنسان الغربي نحو التخلص من تلك الاكراهات الثلاثة، بينما يظل الهروب إلى الله في العالم الإسلامي حبيس الأشكلة والقوالب الجامدة في  استخدام الأخلاق كوسيلة استنقاذية التي تدفع بها المباحث الميتافيزيقية التقليدية التي  تتعلق بعوالم الخير والشر نحو حلقة الاكراهات الثلاثة الوجود، اللغة، والنص التي انطبعت بالوعي التخييلي الإسلامي في معرفة الله والتقرب أو النأي عنه، مع الفارق الوحيد أن الفعل الذي يدفع بهذا العقل هو الاستقرار على المسلمات الميتافيزيقية التي رفضها العقل الغربي بناء على ظهور فلسفة التواصل، واستبدلها بمفهوم الأتيقا، إذ يعتقد هابرماس أن كل إنسان هو كائن أتيقي وفي (أتيقا المناقشة كارل أوتو آبل استطاع نقد الأتيقات بطريقة محكمة جعلت من السجال مع هابرماس مثمراً) أو كما أوضح هابرماس في كتابه (نظرية الفعل التواصلي) بدوره ضرورة قيام الأتيقا العلمية التي تجاوزت التصورات الميتافيزيقية التي أبقت على بقاء الأخلاق مقابل تشذرات الأتيقا، مع ذلك نجد أن بيكارد أصر أن الهروب في عصرنا هو شيء مختلف تماماً، لا كما في السابق، حينما كان الإيمان واقعاً مشتركاً يحتوي الجميع، بينما الآن، الفرد له خاصية منفصلة، لا يمكن أن نجد الإيمان وحده فيه إلا إذا كان
بطريق الاختيار، أي أن للفرد حرية الإرادة في اختيار الإيمان، عالم الإيمان هو الذي يفوضه في إن أراد الهروب أن يحقق هروبه بنفسه في لحظة الاختيار، وفعل إرادة الإيمان موكلة للفرد، أي أن عليه أن يحرر نفسه من عالم الهروب، 
يقول بيكارد ما نصه كل وضع يتخذه الإنسان هو تماماً وضع هروب، أي كل شيء في هذا العالم موجود على شكل هروب فقط (م ن ص 191) لكن اللجوء إلى اللغة وحدها بكل إنجازاتها، من الألسنية إلى التداولية (عبر انجازات سوسير وجوفيا فيشمان وتشارلز سندرس بيرس و تشارلز موريس واوستين وسيرل وغيرهم) وكذلك الجدل النقدي التواصلي، ولعبة اللغة بين التواصلي والأتيقي (كتابات خارج النسق الدكتور عمر مهيبيل) كلف الفرد ثقل الصخب الذي تصنعه اللغة إذا ما خلت من أمارات الإيمان الذي يجلله عالم الصمت، فبيكارد يؤكد أن الصخب في اللغة وفي خارجها يؤثر على صفات العالم وانسجامه مع ذاته، فعالم الصمت مطلوب لكي يتحقق توطين الهروب في اللغة، ويزداد لدينا الألم والمعاناة الذي قيده كيركجورد في مفهوم القلق، بينما في المخيال الإسلامي يقف وجود الله في المفاهيم الانطلوجية حائلاً من دون تعيين نمط الهروب إلى الله، لأن وجود الله لدينا مازال متعيناً في المفاهيم التقليدية الاخلاقية التي تستشعرنا بأن القيم لم تخرج من إطارها بعكس الأتيقا المبحث القديم الذي كان يعادل الأخلاق إلا في نسبية القيم
لهذا هو استمر حتى الآن، وإن اللغة التي نعي بها وجود الله هي محض مسميات غير نقدية ولا تواصلية أو أيتيقية، فمازال توقنا
للهروب إلى الله قائماً على تلك الأشكلة الأخلاقية التي تعتمد على التصورات الميتافيزيقية، وأشكلة الهروب إلى الله تكمن في التصور الذي تلخصه عبارة (الله موجود) التي نتصورها قادرة على إيصالنا إلى منفذ الهروب من دون سلطان اللغة التواصلية النقدية الأتيقية، التي ترفض أن تكون التصورات الميتافيزيقية  للأخلاق الطبيعية التي لم تتعرض للتساؤل الكانطي ذات بعد ترنسندنتالي هي التي تؤهلنا باللجوء إلى الله، ومن ثم الهروب منه في هذا الكون الذي يتسع كلما أوغلنا في متاهاته، ألا وهو فضاء الإشكالات الثلاثة، لأن معرفة الله في فكرة بيكارد نجدها في عالم الصمت إذ يتخذ الهروب لوناً من ألوان الصخب اللساني والأتيقي.