الرقص.. سرديَّات الأنثى

ثقافة 2021/10/19
...

  ناجح المعموري
مثلما تنوعت وظائف ارتميس اتسعت مسؤوليات عذراواتها وكادت التماثل في العناصر المكونة لها والتطابق بالخصائص المميزة وكل واحدة من العذراوات محاكية للإلهة، ولان ارتميس حاملة شعلة النار، باستمرار، ولا تنطفئ في معبدها نهاراً وليلا وكل عذراواتها حارسات للنار، مراقبات لها حتى لا تنطفئ، وقال فراس السوّاح بأن للجرار المقدسة قيمة طقسية كبيرة لدى العديد من ديانات عصور الكتابة، كالجرار الفخارية التي كانت تستخدمها عذراوات النار المقدسة في هياكل عشتار، سيدة الشعلة في روما ومن ذلك الجرة المقدسة التي كان يحفظها العبرانيون داخل تابوت العهد مع لوحي الوصايا اللذين تلقاهما موسى من يهوه.
ولان ارتميس إلهة قمرية فهي مرتبطة به ولها صفات القمر، مثل البريق والإضاءة والتغير. وتدعو حكمة القمر الجسد الى اللعب الحر، الى الرقص الذي يجعل الجسد موضوعاً لنفسه ويعكس طاقته نحو نفسها، محولاً الحرية المادية الى نشوة روحية ووجد صوفي، فالإنسان في الديانة العشتارية لا يعرف الصلاة، بل يعرف الرقص، وفي المناسبات الداعية للصلاة في الديانة الشمسية، نجد الإنسان العشتاري يرقص. وهو في رقصه لا يعبد إلهاً بعيداً منفصلاً، بل يعيش إلهه ويتلمسه في أعماق نفسه. وفي قمة النشوة وعندما يتحقق للراقص الانفصال التام عن مبدأ الواقع، ويشعر أن حركته تتلاشى عند نقطة ثابتة في مركز ذاته، يتوقف الزمن في ومضة عند شاطئ الأبدية، ثم انطلقت. 
سكر ومخدر وموسيقى ورقص تلك هي عدة الغيبوبة العشتارية التي تعبر بالمريد من جفاف الشمس الى نداوة القمر، عدة كانت عبر تاريخ الثقافة الذكرية، وسيلة للتمرد والحلم، تمرد على النظم العقلانية المسيطرة التي تجعل من الفرد عبداً مسخراً للقوى الاجتماعية الطاغية وديانتها البطرياكية. وحلم بعالم أمومي جديد وفردوس عشتاري أرضي يعيد للجسد الإنساني قدرته على اللعب الحر، ولروحه طاقتها غير المتناهية.
ويمثل الرقص تاريخاً للحضارة التي أبدعها شعب من الشعوب، فإنه يعني صورتها الدينية وممارساتها الطقسية، وهو الراوي عبر الحركة لذلك التاريخ الحافظ له من الاندثار، لأن الأجيال تسلم فنونها وشعائرها جيلاً بعد جيل، مؤكداً على ملامحه الوطنية وتقاليده في الحياة... وهناك رقصات ذات وظائف سحرية معينة؛ ولذا نجد بعضها محاكياً ومقلداً لحركات الحيوانات. وارتباط الرقص بالسحر لم يكن مقترناً بالقبائل البرّية التي ظلت لفترة طويلة تعيش على جمع القوت وإنما ظل هذا الارتباط ـ الرقص والسحر ـ ممتداً في التاريخ.
الرقص وظيفة الآلهة الأنثوية، وطقس تحرص عليه باستمرار، لأنها إلهة قمرية تمارسه كثيراً وان صمتت عن ذلك أساطيرها، لأنه ومن خلاله يتبدّى جسدها راعشاً ومرتجفاً كالقمر، مهتزاً من الرأس حتى قدميها وكأنها تعلن من خلاله عن المختزن اللذّي والطاقة الأنثوية الحبيسة، التي لا تجد وسيلة لتسربها إلا من خلال الرقص. طاقة الأنثى بحاجة للآخر/ المذكر، كي يحققا معاً مبدأ الاتصال والتداخل وعندما تتحصن الأنثى ضده، تجد وسائلها الخاصة لتحقيق اتصالات رمزية مثل الرقص والنزول للنبع. هزّة الجسد سرديته الشهوية، واهتزازه تعويض لهزة الذروة الحاصلة بعد اكتمال الحوار بين الجسدين. المذكر/ والمؤنث، اليانغ والين.
الرقص طقس التباهي بالجسد والإعلان عن طاقته والكشف عن مخزونه وحنينه للاتصال، الذي لم يتحقق رعدة الجسد فصاحة العلامة الكافية للتعبير والإعلان والنداء للمذكر الغائب والحاضر، المستدعى تخيلياً والمشارك في التصورات التي تتشكل تدريجياً سردية عن الجنس تنمو وتتصاعد وتخفت، لكنها تعاود ثانية، الأنثى/ المرأة لا تكتفي، بل تريد المزيد.
للرقص وظيفة دينية، وهو أول الطقوس التي زاولتها الإلوهات المؤنثة وكاهناتها واستجابت لهن النساء ولأن الرقص فن المرأة ووسيلتها مع الخمر والعطر لاستجلاب الرجولة ظل مقترناً بها، كاشفاً عن مفاتنها. المرأة ترقص، وتبث شفراتها للآخر وتدعوه للاتصال التخيلي والتبادل لتقول له بأنها هادرة في كل لحظة ولن تتعطل رغبتها، وكلما شحت بالجسد استدعاها وفاض بها، لا تنضب أشياؤها، تمتلئ بها في كل حين. 
وفي ذروة الرقص ورعدات الأطراف، ترفع الأنثى القيود عن أسرارها فينفلت المخفي لحظة الزوغان والتموج والاهتزاز، ترسل كل هذا لتستدعي تخيلياً الآخر ويكونا معاً في زمن واحد، هو زمن الجسد. الرقص الطقوسي يجدد حيوية الجسد ويديم غزارة رغبته، ويهب المرأة القدرة على إرسال نداءات سرية لطرف آخر تلك النداءات هي توسل من اجل اكتمال الحياة بوجود طرفين. 
يبدو لي بأن للرقص صلة بالسحر، لان رفع اليدين أثناء الرقص، هو وسيلة الساحر اثناء ممارسة شعائره الخاصة. ورفع المرأة لذراعيها هو لاستمرار الطاقة العشتارية الخفية وتمثلها في داخل جسدها، واطلاقها من ثم عبر بوابة رحمها في قناة خفية كما قال فراس السوّاح.
رقص وغناء حوريات ارتميس طقس ديني أنثوي، يعلن من خلاله عن الجسد وصفاته الطقوسية والجنسية لأننا لا نستطيع الفصل بين الجسد ومخزونه اللذّي. والعلاقة الحاضرة هي بين إمكانات المذكر الهائلة والطاقة الأنثوية المستفزة له فتحقق الاشتعال في الجسد الملتهب ومحيطه الخارجي. وتخفف ارتميس وعذراواتها بالرقص عن اثقال أجسادهن ويطرحن الفوران المتعي نحو المحيط الخارجي ممثلاً له بالاهتزاز والارتعاش أنهما فيضان الجسد برغبته المعلن عنها.
تعامل الاغريق مع الشخص غير المتعلم بأنه شخص لا يعرف الرقص الذي هو العلامة الفارقة للانسان المتعلم وهذا يعني، أن الرقص وقتذاك كان بمثابة الملح للطعام في المجتمع، إذ من خلاله، أو اعتماداً عليه، كان يسهل نقل المعلومات، أو يتم التثقيف، أو تنشأ عملية التربية بالذات.. الرقص سلوك جمعي، استقطابي عام. إن في السلوك القائم هذا، يمكن التمييز بين الاشخاص، معرفتهم في مراتبهم ومدى نضجهم. 
ولأن الرقص تمظهر الإلهة الأنثى والأم الكبرى في الحضارات الشرقية، صار معياراً للثقافة وليس للتعلم، وكلما كان المذكر أو الأنثى مجيداً بالرقص فإنه الأقرب الى المثقف الذي يعرف أكثر من غيره عن أمور الحياة. بمعنى هو شخص حضاري، يقيم اعتباراً للجمال وقادر على معرفته والتوصل إليه. ومتى كان الشخص مدركاً لأهمية الجمال فإنه قادر على ابتكار ما هو جديد
وباستمرار.
الجسد الراقص شعرية، ولا بد من شعرية في الحياة. وطاقة الشعر لا تضاهيها طاقة، في الشعر زمكانية وفي الرقص حضور دائم للزمان والمكان والإنسان. رقص ارتميس لا مرئي/ مطلق/ لا محدود/ مخفي/ والمرئي رقص العذراوات الشفاف/ السرمدي/ في حنينه للاتصال والتبادل الروحي الحي.
والرقص توتر وشحنات معبرة عن الكينونة «وبإمكان الجسد أن يقول ما لا يمكن أن يقوله الفكر، المعنى متجسد دائماً والجسد حامل للمعنى».