العراق وحضوره الثقافي في معرض الرياض الدولي للكتاب

ثقافة 2021/10/19
...

 البصرة: صفاء ذياب
 
منذ أن أعلن عن اختيار العراق ضيف شرف في معرض الرياض الدولي للكتاب بدورته التي انتهت منذ أيّام، لم تتوقف وسائل التواصل الاجتماعي عن اللغط والاستنكار وفي بعض الأحيان التخوين، والقليل جداً الحديث بسعادة عن أن العراق بدأ يعود رسمياً إلى الحاضنة العربية ثقافياً.
كان اللغط ينصبّ على وزارة الثقافة وطرائق اختيارها للوفد الذي سيشارك في الفعاليات الثقافية للمعرض، لا سيّما أن هناك أخباراً سرّبت من أن القائمين على معرض الرياض كلّفوا بعض الشخصيات الثقافية لاختيار أسماء مشاركة ومفاتحتها في الجلسات التي حددت للوفد العراقي، غير أن ما حدث - حسب هذه التسريبات- أن وزارة الثقافة تبنّت الدعوات بالكامل بعد الاتفاق مع الجانب السعودي. أما الاستنكار فكان عن الأسماء المشاركة، أو ربّما بعضها، من كونها اختيرت بناءً على علاقتها بوزارة الثقافة. في حين جاء التخوين لأسباب أخرى لا نريد الخوض فيها لأنَّها مجرد ادعاءات عارية عن الصحة تماماً، وهذا من وجهة نظر القائمين على الوفد والمشاركين فيه.وبعيداً عن هذه الثلاثية التي نغّصت الوجود العراقي بعض الشيء، لكن المشاركة العراقية في معرض الرياض كانت فاعلة، وأبرزت تفاصيل كثيرة من الثقافة العراقية كانت غائبة عن الجانب السعودي، ابتداءً من اختيار شيخ النقّاد العراقيين الأستاذ الدكتور علي جواد الطاهر كمحور رئيس في هذه الفعاليات، لإبراز العقل النقدي العراقي، مروراً بالشاعر محمد مهدي الجواهري، والاحتفاء الكبير به بعد إصدار وزارة الثقافة العراقية طبعة خاصة من أعماله الكاملة وتوزيعها بين المثقفين السعوديين، فضلاً عن الشاعر بدر شاكر السياب، والسرد العراقي، والشعر العراقي، وصولاً إلى مجمل الفعاليات التي قدّمت الثقافة العراقية؛ ولو بجوانب قليلة، لتكون حاضرة في المحافل العربية. ومن جانب آخر ومهم، خصصت اللجنة المنظمة لمعرض الرياض جناحاً كبيراً في قلب المعرض لوزارة الثقافة العراقية، التي عرضت أكثر من 600 عنوان من إصدارات دار الشؤون الثقافية ودار المأمون للترجمة وإصدارات مديرية السياحة والآثار، هذه الإصدارات التي وزّعت مجاناً على المثقفين السعوديين بناءً على أمر من وزارة الثقافة ورئيس مجلس الوزراء العراقيين.الآن، وبعد انتهاء فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب، وعودة الوفد العراقي الذي تجاوز خمسين مثقفاً وأديباً وفناناً، يمكننا أن نتساءل: ما الذي خرج فيه الوفد العراقي في معرض الرياض بعد هذه التجربة؟.
 
ترميم الخراب
يقول الشاعر الدكتور عارف الساعدي، مدير دار الشؤون الثقافية، والمنسق للوفد العراقي والذي أدار جناح وزارة الثقافة في المعرض، أن الوفد العراقي خرج من معرض الرياض الدولي للكتاب بجملة إشارات مهمة تقف في مقدمتها أنَّ الثقافة بكل تنوّعاتها هي الحقيقة الوحيدة بين الشعوب، بدونها لا معنى للأشياء، وأنَّ العراق ما زال بذاكرة الأصدقاء والأخوة العرب نابضاً وحيّاً على الرغم القطيعة الطويلة التي حدثت مع العراق، لكنّه ما زال ينظر له بوصفه رائداً للحداثة ومصدراً للقيم الجمالية، وهذا ما لمسناه من كل المثقفين العرب الذين دخلنا معهم في حوارات ولقاءات، إذ ينظرون للعراق بأنَّه نبع ثقافي ريادي يبتكر البدايات ويديمها، العراق خرج من معرض الرياض بحقيقة أن القوى الناعمة هي الجسر الحقيقي لعبور المجتمعات فوقه ومن خلاله نحو السلام الشامل، خرج العراق بنتيجة أنَّ السياسة التي دمّرت الشعوب والبلدان لا بديل عنها إلّا بمزيد من الثقافة ومزيد من الموسيقى ومزيد من الشعر والغناء والحوارات والرسم والسينما والمسرح، لا بديل عن هذا العالم الخراب إلّا بترميمه بالفن.
 
رسائل الثقافة
ويرى الناقد الدكتور صالح زامل، أن الدعوة كانت استثنائية، فهي المرّة الأولى التي يحتفى بها بالثقافة العراقية بهذه الطريقة المميّزة منذ عقود ليست قريبة. وكان العطاء العراقي المميّز حاضراً في نخبة من المثقفين في المجالات المختلفة، فضلاً عن الناشرين الذين حملوا رسالة نوعية عن صناعة الكتاب العراقي.
ويضيف زامل: لقد أنتج التفاعل من خلال ما قوبلنا به وأصداء ما عرضناه من إبداعات جملة ملاحظات:
1 - إنَّ الثقافة ما زالت قادرة على أن تحمل رسالة إنسانية مشتركة وتستطيع أن تقرّب ما باعدته السياسة، وهذه الرسالة تجد الحفاوة المناسبة وما زال لها فعلها المؤثر.
2 - إنَّ الثقافة الحقيقية لا يصادرها الخطاب السياسي، بل لها حضورها الموازي والفاعل.
3 - الحاجة لتأكيد هذه الصورة بانفتاح مستمر وتواصل بين المؤسسات الثقافية الرسمية والمدنية في البلدين بتبادل الخبرات وتسهيل حركة تداول الإنتاج الفكري والإبداعي، فهناك شغف لمعرفة كل شيء عمّا يدور في العراق، فالإعلام ينقل صورة أحادية سياسية عن العراق في حين تحمل الثقافة صورة مختلفة تؤكد ديمومة واستمرار الحياة.
4 - وجدت شخصياً أمّة تفكر وتؤسّس في المستقبل، قليلة الالتفات في خطاباتها للماضي، في الأقل الذين التقيتهم وهم من شرائح مختلفة سواء رجال دولة أو من مثقفين أو مواطنين بشكل عام وهو ما نحتاجه أيضاً.
 
بواعث الحياة
ويبين الشاعر طالب عبد العزيز  أن  معرض الرياض للكتاب الذي أقيم هذه السنة أتى منسجماً مع حاجة البلدين، العراق والسعودية إلى تهدئة الوضع السياسي في المنطقة، وإعادة ترتيب الأولويات، وتمتين عرى التفاهم بين الشعبين بناءً على جملة المشتركات والقيم. إذاً، فهو أبعد من كونه فعالية ثقافية. مضيفاً: قد لا يلمس الزائر التقليدي للمملكة أثر الثقافية العراقية في الوسط المثقف السعودي، لكنّه واقع ملموس عند النخب المثقفة، وإذا كان التعليم الجامعي في المملكة مديناً لأعلام عراقيين كبار (علي جواد الطاهر، مهدي المخزومي، شاكر حسن آل سعيد وغيرهم الكثير)، فإنَّ مرجعيات الثقافة هناك عراقية بامتياز، وهذا ما يؤكّده الأشقّاء السعوديون. وإذا تحدّثنا عن الفعالية هذهِ، فهي الأكبر بين مثيلاتها في الشرق العربي، فضلاً عن كونها فرصة لاطلاع الوفد العراقي على المنقلب الكبير في الحياة هناك، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً... بقي أن نلفت عناية إداراتنا إلى الإفادة من التجربة الجديدة في المملكة على الصعد كافة، فالناس هناك قطعوا أشواطاً كبيرة في مفاصل الحياة، ومدينة الرياض مدينة رقمية اليوم، والإدارة فيها تحكم قبضتها على كل من يعبث بأمنها لأنَّ المدينة تتعجّل الخطى لتصبح المقارع والمناطح القوي لدبي.
 
ترسيخ التقاليد الثقافيَّة
وبحسب الأستاذ الدكتور مؤيد آل صوينت، فقد مثّلت تجربة حضور العراق بوصفه ضيف شرف على معرض الرياض الدولي للكتاب فرصة مهمة للمثقف العراقي بعد عقود من العزلة المفروضة عليه لأسباب متعددة، فطبيعة الفعاليات التي أنيطت بالوفد العراقي بتنوّعها وتعدّدها أتاحت مسارات الكشف والتداخل والتعريف بما هو مشترك عبر الثقافات الإنسانية، ففي استذكار الرموز العراقية عربياً وفي فعالية مهمة مرتبطة بوجود مثقفين من معظم الدول العربية، إعادة لبث الروح في المشهد المعرفي على كافة الصعد، فضلاً عن الاطلاع على تجارب الآخرين في تخليق الفعل الثقافي ومد جسور لعلاقات إنسانية لوّثتها مسارات السياسة والجهل المتبادل، لقد وجد المثقف العراقي تعطّشاً من قبل الجمهور لمواكبة ما يقدّمه العراق بوصفه يمتلك إرثاً إنسانياً هائلاً في بناء ثقافة راسخة على الرغم من طبيعة الظروف القاسية التي مر بها، فضلاً عن كون المعرض فرصة جيدة لبيان ما استشكل من تصوّرات مخطوءة ترسّخت بسبب عوامل الانقطاع وترسيخ الانطباعات بدل الحقائق.