لذة صمت الهايكو

ثقافة 2021/10/20
...

  اسماعيل ابراهيم عبد
 
لعل بلقيس خالد واحدة من القلائل اللائي جعلن الطبيعة الخفية ثوباً لأزلٍ من صناعتها، وفوق هذا وذاك تصير للعناوين شبكة (هايكو) تنفصل وتتصل في آن واحد، تعطي للأثر قيمة مستقلة وأُخرى مستمرة بمحاذاة النماذج الأُخرى. 
الشاعرة تعي جيداً انها تكتب شعرها تحت مظلة أفكار الحداثة وما بعدها بحدس مستقبلي، وان تبنيها للهايكو المُطَوَّر عراقياً يضعها في رتبة شعراء الطليعة ممن يقفون مع التجدد السريع للشعر لأجل أن يواكب تطور الفنون والتكنولوجيا عالميا، ويُلائم البيئة النفسية للقارئ الجيد الجديد. 
وقد تقوم الشاعرة بلقيس خالد بوضع نفسها بديلاً عما على القصيدة من فعل قولي، فتصنع لكل ومضة (هايكو) حدثاً، ثم في نهاية الحدث ينكشف الترابط الدلالي ـ كقيمة معنى أساسيةـ إذ تضع للعلائق الدلالية مبرراً منطقياً، فلسفياً اجتماعياً، يعكس عَبْرَهُ منظورَهُ القيمي والروحي والفني كنشاط بشري صائغ للوعي الإنساني بصورته الموجهة للدلالة المتناغمة مع سمو الضمير، أو المحتجة على ضياع السمو في الضمائر. لنتابع بحسب الآتي:
ثوب اللذة: يلاحظ على الومضة القادمة انها حال يحتفي بقيمة الآكل والمأكول.. بل انهما يتبادلان اللذة مع الشاعرة التي تجد نفسها قصيدة. ثوبها لغة تخبئ وراءها قيماً قاسية، لها ترابط دلالي يخص نظرة الناس الى وظيفة الثوب التي لا تغادر معنى، كون الثوب ستراً عن العري، وحجباً للنظر الى ذلك العري، والقصيدة او الشاعرة تؤكدان ذلك الفهم المجتمعي، فتتلذذان بقيمة ودلالة فضح الامتهان للجسد والعواطف والمعنى، كأنما الثوب لقمة القصيدة، والقصيدة جسد يبتلعه الثوب. لنقرأ ونتأكد: [لقمة لذيذة ../ يلتهمني/ ثوبي] يبدو ان نتيجة قراءة الومضة هنا هي ان الآكل والمأكول يتفقان على ان مثل هذه اللقمة الكبيرة لقمة قميئة من حيث النفع الإنساني، وهي قميئة أيضاً كونها تبدل الكائن الإنساني بلقمة تختزل جسده وروحه. بمعنى ان الشاعرة تقدم الحال السلبي لتنبه الى ايقاف وظيفة الأستار عن عري المجسدات، وفمٌ كبير قادم سيتم المهمة العسيرة لّلقمِ: 
«الفم الكبير: ودرجاً مع قيمة اللذة المُنوّه عنها قبلاً سنرى في الومضة القادمة ما يضخم حال الآكل القميء مع حال المأكول المستغيث.. لنقرأ: [المآقي.. تشبه كل فم..  / ولا شبيه لها/ في اللغة] ـ دقيقتان.. ودقيقة واحدة ـ هايكو عراقي، ص40». 
إن المآقي التي تتسع لإبصار الموجودات (ذاتها)، تتسع أيضاً لتصير فماً حامياً وحاوياً بشغف الآكل وقوة المأكول لكل قيمة جمالية، فهو يشرب الدمعَ ويبلل الثوبَ، وقد يشقق الجفنَ، أو يحفل بالقول أيا كان نوعه، فهو فم من لغة ألغتْ بلاغتها حياءً وخجلاً من دمع البلاد المأسوف على فمها المقهور بقيمة القمع وتشتيت لغة الجمال التي توحد الأحلام والمستقبل والرؤى. إذاً ستكون المآقي فماً للكلام عالي الصوت.. ستكون المآقي فماً للصرخة المستغيثة، وللاستغاثة الثائرة حتى على نواميس لغة الخضوع. ستكون الصرخة قوة مخالفة فنية وقيمية لأرواح الصمت الثلاث.
أرواح الصمت: أرواح الصمت هي أقوال صارخة صادحة معللة، مفتتة للمآخذ الإنسانية ببوح متحرر من عصمة اللغة، وفساد الذائقة، ووجع التعبير.. انها أرواح من ثلاثة أنساق للصمت المتمرد: 
صمت اللغة/ كيف تصمت اللغة؟.. نرى انها تصمت حين لا تحيل الى معنى او غرض يهم أحداً، وتصمت اللغة حين تصبح رموزاً مبهمة، وتصمت اللغة حين تكون رطانة علم غير انساني مثلما يحدث لخرسان الهندسة الوراثية، الذين يتكلمون بإشارات الأصابع غير الناطقة: [أصابعه تتلاسن مع المتكلمين: ولدٌ ضحية الهندسة الوراثية] ـ دقيقتان.. ودقيقة واحدة، هايكو عراقي، ص85. 
صمت الكتابة/ كيف تصمت الكتابة كصورة تدوين ومعنى علائق؟. نرى ان الكتابة تصمت بفعلين الخوف والغفلة، الخوف من أن يُساء فهمها، والخوف من أن تُرفض معانيها: [أصابعه تتلاسن مع المتكلمين: ولدٌ ضحية الهندسة الوراثية] ـ دقيقتان.. ودقيقة واحدة، هايكو عراقي، ص85. 
صمت الهايكو/ الهايكو يصمت لأجل ان تتحدث الأفكار والإشارات والفلسفة، فهو صمت المستعين بالجمال لتفادي ما يخرب البيئة والإنسان.. لنقرأ: [ليس فكرةً/ الهايكو مشهداً/ تلمسه عيناي/ في ظاهر الأشياء والباطن] ـ دقيقتان.. ودقيقة واحدة، هايكو عراقي، ص102.. الهايكو، المشهد، يغطي نسق فكرة الجمال، وفكرة الجمال تبرر فلسفة الوجود الفاضحة لما في باطن الأشياء وظاهرها.. فضلاً عن أن الهايكو صورة تشهدها العين قبل العقل والعقل بعد الفهم، ثم يصير القول مشهداً حاملاً للإشارات التي يُستدل بها على معين الخير في كل كائن.