طوباويَّة الحياة البديلة

ثقافة 2021/10/21
...

 ستار زكم
 
أصعب ما يواجه الشاعر في القصيدة هو الكتابة عن الآخر حين يبتعد عن النزعة الفردية في التعبير حيث التسامي عن الأنا والذات المنكسرة، وتكمن الصعوبة هنا في خلق حالة من التجسير نحو الآخر وكل ما يحيط به من حياة تخيلية نابضة بغية خلق توازن نفسي بين الذات المنفعلة التواقة الى الهروب من واقع معيش وبين حياة أخرى يتخيلها الشاعر بمرارة وألم وحسرة. 
هذا النمط من الاشتغال الفني متجذر في المجموعة الشعرية (بابيون) لحبيب السامر والصادرة من دار المعقدين للنشر والتوزيع. 
بابيون عنوان يعكس صفة الجمال الذي ينساب مع كتابة الشاعر طوال مشواره في هذه المجموعة الشعرية فهو الحلم الذي يسور حافات المخيلة في نمط فني استطاع ان يخلق منه فضاءً واسعا في اشتغالاته الشعرية. وبابيون بمعناه التقليدي هو الفراشة التي تعلق في الأعناق والصدور عاكسة حالة من الجمال والتأنق. لكن صورة هذا الجمال تبدو حلميَّة أكثر مما هي واقعية. فعند قراءة نصوص المجموعة تجد علامات الهروب واضحة من عالم مسور ومحبوس عالم متأخر ومتراجع:
هذه كوابيسنا 
لا تمر بها الفراشات 
ولا نديم السمر. 
بابيون علامة من علامات الحياة المتخيلة.. حياة نافرة من واقع مأساوي وعذابات عديدة يراها الشاعر يوميا/ الحلم وطوق النجاة للشاعر وهي الفراشة التي لا ترغب بالسقوط نحو نيران الحياة المستعرة/ الحياة المخادعة:
فتش عن عينيك بعينيك 
لا جدوى في انزياح العتمة. 
صورة شعرية يرسمها الشاعر بلون اسود قاتم تمثل محاكاة الآخر تلك المحاكاة تستمر في بث تشاكلها في مناحي عديدة من المجموعة الشعرية، فالخطاب هنا توجيه ومعاينة الى صفة الآخر: 
أيها السادة.. لا تقتربوا من السواحل 
رغم جفاف الموجة وفزع الحيتان. 
هذا الخطاب الذي يغلفه بنداءات عديدة تمثل حياة طريدة متهرئة فلا فكاك إلا من استغاثة صارخة بغية الهروب من واقع معيش يلازم الشاعر في العديد من مجريات حياته اليومية   
هل حاولت ان تعد خطاك 
منذ ان تعلمت المشي 
على حبل الكلام 
معمار النص الشعري عند السامر يكتمل بهندسة المعنى ان جاز التعبير، فلو وضعت اصبعك على اي مفردة من مفردات القصائد يتعطل معنى النص لديك وكأن القصيدة شكلت وفق بناء هندسي متراص ومحبوك لأن النهايات هنا تكون مكثفة من حيث الدلالة وهي تميط اللثام عن وجه النص بعد اكتمال المعنى فيكون التفاعل اكثر تشويقا في التتابع ويخلق للمتلقي متعة في القراءة حال اكتمال مشهدية النص مبتعدا في ذلك عن المجاز الغامض الذي يؤدي الى غموض المعاني، وهذا يـتأتى من فكرة مفادها ان الشاعر يتمتع بتجربة فنية طويلة وراسخة متولدة من الفهم والدراية بجميع عناصر الكتابة:
نرسم مدنا بلون الفضة 
وانت تمحين الخرائط 
أرسم صباحا نديا يداعبه الورد 
وأهمس للسحابة 
تعالي هنا 
عطشي لاهب 
ومدني لا يزاحمها الضوء.
الكتابة الطوباوية حاضرة في بناء النص الشعري عند السامر بشكل جلي يعكس صورة الشعور بالأسيجة التي تعتم فضاءاته الحياتية؛ لذلك يحاول الشاعر الافلات من الجو المشحون بالألم خلال تعبيرات حلمية، لكن الحلم هنا يبدو انه معطل. فنجد صورة مؤكدة على محاولة كسر القيد الثقيل والتحرر منه، فهي صورة ماثلة بين حلم معطل وبين مكبلات مانعة للحرية. وكأن الشاعر هنا يطرق نوافذ الحياة كي يوقظ الحلم من سباته ليؤسس حياة بديلة أكثر جمالا ورقي: 
نافذة مغلقة على حلم:
هل فكرت أن تمسك غيمة 
تطاردها وأنت تعد خطاك
تنتابك أمنية لاحتوائها
يأخذك الطيران 
يحلق بك
الفسحة تتسع 
تتشكل مخيلة السامر في هذا الاشتغال الفني المحتشد بقوة الشعر عبر تضاريس الحلم/ الحلم الذي يطالع الى معاشرة النجوم عبر نافذة معطلة فتمتد المخيلة نحو رصف جغرافية الأمكنة المتصورة حين يستشرف الشاعر الآفاق المحيطة به وهو يؤثث خطابه الشعري من توصيفات سوداوية للحياة/ الموت/ الانهيار/ الامتعاض من القسوة/ وكل هذا الضجيج الذي يسكن حياة الشاعر حين يؤثث من خلالها أحلامه الشعرية:  
من تلك الغيوم 
تدرك تماما 
أنها لا تلج من ثقب نحو الحلم 
لم يبق للشاعر إلا أن يحلم بلا رقيب ولا منافس فالأحلام مباحة للجميع، لكن حلم الشاعر هنا حلم إنساني في الكتابة الشعرية أحلام تدون لحياة أكثر ابتهاجا. 
طوباوية الشاعر حاضرة جدا في (بابيون).. بابيون الحلم النبيل الذي يحفر بجذر المخيلة ويرسم ملامح الفردوس وملامح الحلم/ حلم الفراشة المتأنقة التي تروم الابتعاد من لسعات الحياة:  
الروح خرائط من أنساغ تتصاعد 
تحلم بالمكوث طويلا في السماء 
إنها كثافة المخيلة عندما تمطر شعرا غزيرا في حلم يتكرر وهو يطرق فوق سندان الحياة. إنه المسار الإنساني الذي يسعى اليه الشاعر وهو يحاول ان يفرغ ما في داخله من عوالق محطمة وحياة صدئة لإعادة صياغتها بنقاوة الذات الحالمة. فالحلم هنا هو المعادل الموضوعي والرغبة المطهرة في خلق حياة نابضة بالمعنى. 
كيف لي أن أحفل بك 
ولو لدقيقة عابقة 
لتدثري بقايا أحلامنا 
المفارقة في هذه المجموعة أن مفردة (حلم، احلامنا، احلامهم، حلمي) وردت اثنتي عشر مرة في صفحات الكتاب بما فيها عناوين نصوص مثل «نافذة مغلقة على حلم» و»ليل لا يجيد تداول الحلم». 
إن تكرار مفردة الحلم في النصوص الشعرية جاء مناسبا جدا لنسق الكتابة بشكل عام التي تحيلنا الى النمط الطوباوي حيث الحلم هنا يشكل نسقا مهما من انساق الاشتغال آنف الذكر علاوة الى العديد من النصوص التي كتبت بطريقة طوباوية. 
أفضل النوم على وسادتك
كي أجيد الإصغاء للحلم 
في الغالب الأعم جاءت المجموعة الشعرية على شكل قصائد قصيرة لكنها مشحونة بكثافة الصورة وممتدة بفضاء المعنى وكل هذا المكون الإبداعي والفني في (بابيون) جاء من خلال توالد الصورة الشعرية العميقة والمعنى المتعدد لما يكمن من انبثاق جمالي وايحائي. وهذه ركيزة مهمة بنيت عليها القصيدة الشعرية في هذه المجموعة، وهذا يحيلنا الى قوة تماسك البناء الفني للنص الشعري.