ثلم الدلالة

ثقافة 2021/10/21
...

 محمد يونس
 
شكل علم الدلالة في توجهاته العامة والخاصة الاهتمام بدراسة مستويات وانماط الدلالة، لكن ذلك العلم لم يتقدم ليدرس ما طرأ من ثلم للدلالة في أفق ما بعد الحداثة يستوجب لمَّ الأجزاء من جديد، وصيغة مفردة –جديد- تعني قد طرأ فعلا تغيير على كينونة الدلالة، بعد تحولها من طبيعة استدلال لأخرى. 
وتلك الصيغة الجديدة التي تبدو أقرب إلى حالة من حالات التفكيك، والذي اصبحت فيه الدلالة حصيلة تقاطع جميع المعطيات التي يشهدها افق أثر أدبي. 
واذا كانت اللغة لسانيا قد ألغت التحديد الدلالي خصوصا اذا تجاوزت التعبيرات افقها العام، واذا المعنى قام بنشاط استثنائي قاده الى ما بعد المعنى، فالدلالة هنا سعت الى ما بعد الدلالة، وذلك بعد تجريد الكينونة التي تحيل الى نوع من الاستدلال، وهنا التفسير العام لا يكون راجحا أساسا، فتخلي الدلالة عن أفقها بعد الثلم يستوجب لها البحث عن افق مناسب، وشكلا ستكون الدلالة في عجز تام، لكن مضمونا يمكن ذلك اذا تجردت ذات الكتابة في الاثر الادبي واصبحت معنى نصيا متوافقا مع طبيعة ذلك الثلم.
تتم معالجة ذلك الثلم عبر تجاوز وعي الحدود العامة، وأن يدخل في مجال اليقين الجينالوجي معرفيا، إذ يكون في افق معالجة الثلم - كما المعالجة التي تتم عند براك لسطح لوحته- أو هي توازي من قام به بيكاسو من تهشيم لوحة عدة مرات، وفي جزء قد ثلم وجد ضالته، أو كما جعل ادغار الان بو الغراب كائنا شعريا. وتلك الصيغ الاستثنائية جديرة بموازاة فكرتنا ازاء التغيرات الهائلة التي مرت بها الدلالة في عصر ما بعد الحداثة، حيث شكل إلغاء مؤشر الواقعية وموت التاريخ أحد الاسباب الوجيهة للتحول الدلالي الهائل، إذ لم يعد هنا أو هناك معنى (للمعنى العام) واصبح في حالة من التباس تؤكد بأن الدلالة قد ثلمت ولم الاجزاء من جديد سيغير من حالها ويضعنا امام تفسير جديد. 
فعلى المستوى الادبي تلك النصوص الخرساء في الفضاء الالكتروني، والتي تصرخ بصمت، وبلغة عجز التحديد اللساني عن تحديدها سياقيا، وزمن متحرر تماما لكنه يميل لينتهي الى عدم.. كما الجزء الذي ثلم من الدلالة، لينتج لنا زمنا آخر.
إن تغيرات البنية الدلالية ليست انعطافة بالمعنى العام، بل حالة انعراجية حساسة أثارت السؤال المعرفي، وقدمت الشك على اليقين، لكن في المقابل ابقت على المستوى الدلالي رغم تغير مفهومه في افق ما بعد الحداثة.
وهنا تكمن سمة المنعرج في اعادة تفسيره لبعد الاستدلال، فاذا كان سابقا - الشاعر هو من يقول فالآن النص هو من يتكلم - ولسنا هنا ازاء مقارنة بالقدر الذي نهدف فيه الى اعادة تفسير الوحدة الدلالية بالصيغة الآنية والمعاصرة، لأن ثلمها هو حالة فنية وهو ليس بنقص كما يرد عند التفسير العضوي. واذا انتبهنا الى التحول النصي المباشر من دلالة تامة الى دلالة مثلومة (بعد ما دفعت البنية الفنية في النص لانحراف حساس وخطير عن حالتها العامة الى حالة شديدة الخصوصية) يمكن تفسير المؤلف بأنه قد -كتب نصه وهو معصوب العينين- إذ إن المظاهر التي تحيط به تمنعه في حدودها العضوية من اختراق زمنها، وهناك كم كبير من الكتابة محاطة بالجدران والستائر والسقوف، وهي تراوح في زمن الحداثة داخل زمانية ما بعد الحداثة.
وصراحة هؤلاء كمن يزرع الشوك ليشم بعد ذلك من بعد عبق الزهور، ومن ثلم دلالته فنان جدير، يتمكن من لم الاجزاء بمستوى استاطيقي، ومن لم يثلمها فهو كاتب يبرر نفسه في مادته المكتوبة ولا يتجاوز ذلك.