حمد شهاب الأنباري
للمكان في التراث الشعبي حضوره الكبير، وتتبلور أهمية المكان في الفكر الشعبي من كونه الساحة التي يولد فيها الإنسان، ويعيش على ترابها، وعليها يمارس جميع مفردات حياته؛ لذلك تتصاعد أهميّة المكان إلى مرتبة التقديس عنده، ويترسخ حبّ المكان في عروقه، حتى يصير المكان هوية انتسابه.
أقف في هذه المقالة عند مكانين من أمكنة مدينة الرّمادي التي درستْها الأيّام وتخَطّتها، حتّى لم يعد أحد يذكرها سوى قلّةٍ من ساكنيها الذين بقيتْ ذاكرتهم تحتفظ بنتفٍ من الذّكريات والصّور لحياةٍ مضتْ كأيّة حياة. السوق القديم هو أحد أسواق مدينة الرمادي، ويسمّى عند ساكنيها «السّوق المسگّف» بتفخيم الگاف، وهو سوق ذو سقفٍ يقع في أحد أحياء المدينة القديمة يسمّى «القطّانة» نسبةً إلى القطن كما يُقال. والسوق القديم محصور بشارع يجاور جامع المدينة الكبير، وما يسمّيه العامّة «جامع عبد الملك» نسبةً إلى خطيبه وإمامه السيد عبد الملك السّعدي، وبين «سوق الصّاغة» الذين يتعاملون بالمصوغات الذّهبيّة والفضّيّة.
وقد كتب المرحوم بدر شاكر السيّاب (شاعر العراق الكبير) قصيدته التي سمّاها «السوق القديم» عن هذا السوق، حينما عاش شطراً من حياته في مدينة الرمادي كمدرّس في ثانويّة الرمادي أعوام الخمسينيات ومطلعها:
الليل والسوق القديم
خفتتْ به الأصوات إلّا غمغمات العابرين
وخطى الغريب،
وما تبثّ الريح من نغمٍ حزين.
كم طاف قبلي من غريب.
في ذلك السوق الكئيب
فرأى وأغمض مقلتيه،
وغاب في الليل البهيم
والريح تعبث في فتورٍ واكتئابٍ بالدخان
وصدىً يذكّر بالليالي المقمراتِ وبالنخيلْ
أمّا «خان شاحوذ» فهو الخان الواقع في قلب الساحة الرئيسة لمركز مدينة الرمادي، ويُعدُّ قلب المدينة من الناحية التجارية والكثافة السكّانية المحيطة بموقعه، ويرتبط بالشارع بواسطة شارع يسمّى شارع السينما، وهو الشارع الذي تقع على جانبيه المحال التجارية الرئيسة لبلدة الرمادي. وكلمة «الخان « كما توضّحها قواميس اللغة تعني المنزل أو فندق التجّار، أو محطّة القوافل، وتعني حانوتاً أيضاً. كما أنّ لفظة «الخان» تستخدم كلقبٍ لسلاطين الترك. وهي تستخدم في إيران اليوم بمعنى السيّد والعزيز. وهي في الأصل تركيّة مغوليّة دون لقب «خاقان». وبعض مدن غرب العراق تسمّي السوق خان.
وخان «شاحوذ» هو المكان الرئيس الذي يحتل قلب مدينة الرمادي، فهو بمثابة السوق والفندق، وهو مكان لتجمّع النقليّات داخل المدينة وخارجها. ولعلّ كل هذه المعاني دارتْ في ذهن المفكّر والفيلسوف العراقي المرحوم «مدني صالح» الذي كتب روايةً تحت عنوان «خان شاحوذ»، ولم يتهيّأ له طبعها، ولكنّه أشار لها في بعض مقالاته التي كان ينشرها في الصحف العراقيَّة.
لقد أزيلَتْ معالم خان «شاحوذ» بعد تحديث المدينة، ولكنّه يظلّ شاخصاً في أذهان العامّة كأحد الأمكنة التي ارتبطت به حياة الناس في أيّامٍ مضتْ، ولم يبقَ منها سوى أطيافٍ من الذكريات.