لاشك أن النصر الذي حققته القوات الأمنية انجاز لا يستهان به، وهو مفخرة لكل العراقيين ولكل إنسان يرفض العنف ويحترم تضحيات الآخرين، وحقيقة قدمت قواتنا الأمنية وكل العراقيين تضحيات جسيمة، لكن للأسف الحرص للحفاظ على هذا المنجز لا يتناسب وأهميته.
العمليات الإرهابية التي نفذها تنظيم داعش في الآونة الأخيرة هي تكرار لنفس السيناريو الذي اعتدنا عليه بعد كل صولة تخوضها قواتنا الأمنية ضد التنظيمات الإرهابية، فما إن تنتصر في معركة ما أما مدينة أو أرض حتى يتسلل الاسترخاء والطمأنينة لقواتنا وكأن الحرب حسمت وانتهت وما عاد هنالك من تهديدات.
لا أريد الانتقاص من قواتنا أبداً ولا أقول إنهم يفرطون بانتصاراتهم وتضحياتهم، كما أنني لا أعتبر العمليات الإرهابية الأخيرة عودة لتنظيم داعش، بل أقول إن الثقة بالنفس أحياناً تكون أكثر إضراراً بالنفس، وكان من المتوقع أن يلجأ الدواعش لهذا النوع من العمليات الخاطفة.
لست خبيراً عسكرياً أو أمنياً، أنا مجرد متابع للأحداث وفي ما سبق عملت على الملف الأمني أيام تنظيم القاعدة وتكونت لديّ علاقات واسعة مع العديد من القيادات الأمنية والعسكرية والاستخبارية، لذلك أتحدث بأمور ليّ إلمام
بها.
تنظيم داعش أراد من خلال العمليات الأخيرة بث رسالة مفادها بأنه ما زال موجوداً ولم ينته وقد نجح بذلك من الناحية الإعلامية، لكنه في الوقت نفسه من المفترض أنه فتح أبواب جهنم على خلاياه وكتابة نهايته بيديه، وذلك لأن هذه العمليات أثارت ردود فعل واسعة شعبياً وعلى أرفع المستويات مما دفع القيادة الأمنية إلى شن حملات واسعة النطاق في الصحراء الغربية وتكثيف الجهد العسكري والبري والجوي والاستخباري.
تجدر الإشارة هنا إلى أن مشكلة الصحراء الغربية معقدة للغاية ولا يمكن حلها خلال وقت قريب مهما توفرت الإمكانيات المادية والعسكرية، إذ أن المشكلة تتعلق بالصحراء نفسها فهي تشكل نصف مساحة العراق تقريباً كونها لا تقتصر على محافظة الأنبار فقط بل تتصل بصحاري وبوادي نينوى وصلاح الدين وديالى وبابل وكربلاء والنجف، وبالإضافة إلى هذه المساحة الشاسعة هناك مشكلة التضاريس الوعرة التي تصلح للتخفي بعيداً عن الأبصار والرقابة التصويرية، بالتالي لا يمكن لأي قوة أمنية مهما كانت متقنة التدريب وتمتلك أحدث أجهزة المراقبة أن تتفادى هذا النوع من العمليات الإرهابية، خاصة وأنها بالأساس لم تجر في مناطق تتواجد فيها القوات الأمنية أو حتى بالقرب
منها.
إن تغطية الصحراء الغربية بالكامل أمر مستحيل، فنحن حالياً لا نمتلك أجهزة المراقبة المتطورة كالكاميرات الحرارية والاستشعار الحراري والحركي، وحتى في حال توفرها فمكانها على الحدود وليس في الأراضي الداخلية، وإذا أردنا ذلك فنحن بحاجة إلى عدد هائل من هذه الأجهزة، أما مسك الأرض من قبل القوة البشرية فنحن بحاجة إلى ضعفين أو أكثر لإجمالي أعداد القوات المسلحة الحالية بمختلف صنوفها وتشكيلاتها ومسمياتها لتغطية هذه الصحراء المترامية الأطراف، حيث يجب نشر مرابطات وعلى مسافات ليست بعيدة عن بعضها البعض لكن تتمكن من تبادل الإسناد والدفاع في حال تعرضها للهجمات الانتحارية من قبل الخلايا الإرهابية.
يجب أيضاً أن لا نغفل أمراً في غاية الأهمية وهو أن المواجهة بين قواتنا الأمنية والتنظيمات الإرهابية ليست مواجهة بين رصاصة ورصاصة أو سلاح وسلاح ولا رجل لرجل، ما يجري على أرض الواقع مواجهة بين جندي وبين انتحاري، بين جندي يريد حتى آخر لحظة الحفاظ على حياته وهو حق مشروع، في المقابل هو يواجه شخصاً لا يعنيه الموت بل هو أصلا لا يتجنب الموت حباً بالحياة بل فقط لكي يتمكن من الوصول إلى هدفه وما أن يصل إلى الهدف فهو من يقوم بقتل نفسه. لذلك المعادلة هنا ليست بالسهلة.
تنظيم داعش وقبل أن يتحول إلى تنظيم يجتاح المدن كان عبارة عن خلايا نائمة وأخرى نشطة تقوم بتفجير هنا وهجوم مسلح هناك وسيطرة وهمية على طريق خارج ولم يصبح قوة حقيقة على الأرض إلا بعد العام 2014، وها هو الآن يعود إلى سيرته الأولى، خلايا متناثرة هنا وهناك لكنها غاية في الضعف ويسهل القضاء عليها أو على أقل تقدير تحجيمها وشل حركتها، وما نحتاجه فقط هو عدم الركون إلى الاسترخاء أمنياً، ووضع جدول زمني من قبل القيادات الأمنية كلٌ حسب قاطع المسؤولية لشن عمليات تمشيط مباغتة بين وقت وآخر ومرابطة على الأرض لعدة أيام ومن ثم العودة إلى الثكنات وتكرارها شهريا مرة أو مرتين، وبذلك ستكون الخلايا النائمة والصاحية لتنظيم داعش في حالة قلق وحذر وإرباك دائم، وهذا بطبيعة الحال لا يمنحها فرصة التفكير والتخطيط ولا الجرأة على المباغتة.