شبهة الدولة القومية

آراء 2019/03/04
...

 د. قيس العزاوي
 
من بين الشبهات التي شابت طموحات تشكيل دولنا العربية مثل الدولة الدينية والدولة الوطنية شبهة الدولة القومية. فإذا اثبتنا عدم وجود الدولة الدينية التي يحكمها الفقهاء على غرار الدول الدينية الاوروبية في تاريخنا، فقد اثبتنا غياب الدولة الوطنية سيدة قراراتها في بلداننا لفقدان مستلزماتها القانونية. وسيكون هدفنا في هذه العجالة تأكيد شبهة الدولة
 القومية.
      "القومية" مثل العديد من المصطلحات السياسية الوافدة الى قاموسنا السياسي لعبت أدواراً كبيرة في تطلعاتنا طيلة اكثر من قرن.. ليست القومية كمفردة لغوية لها تاريخ وجود في حياة الشعوب عامة والعرب من بينهم، ولكن القومية باعتبارها مفهوما سياسيا جديدا بنيت على اساسه الدول القومية منذ اكثر من 
قرنين.
   يعود الظهور النظري للفكر القومي الى القرن الثامن عشر عندما نضجت الحاجة الى فكر بديل للفكر الديني الذي كان يهيمن وقتذاك على الممالك والامبراطوريات والدول. ومع اطلالة العصر الصناعي استدعت التطورات ظهور فكر جديد يعبر عن تطلعات الطبقة البرجوازية الناشئة. وكان لهذه الطبقة نزعات ترمي الى فصل التعليم عن الكنيسة والدين عن الدولة وبناء "دولة الامة" على اساس قومي تعددي.
    ترافق تطور نظريات الفكر القومي مع ظهور كتاب نظرية " العقد الاجتماعي ، أو مبادئ الحق السياسي" لجان جاك روسو وذلك في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وقد ارتبطت الفكرة القومية بافكار سياسية وثقافية تربوية عدة مثل الاخلاق لكونها في نظر البعض فكرة اخلاقية بالاساس، الى جانب ارتباطها بالوطنية والاستقلال والعلم والمعرفة . وهكذا انتشرت هذه المفاهيم الجديدة بعد الثورة الفرنسية وفرضت نفسها على الفضاء السياسي الاوروبي، ومما ساعد على انتشارها هو امتزاجها بقضايا الحقوق والحريات والسيادة والفكرة الوطنية 
والثورية .
  وقد أثارت الفكرة القومية حينها جدلاً كبيراً في اوساط المفكرين الغربيين، وقسمت الى اصناف، وقيل بالقومية الخيرة والقومية الشريرة...الخ". وبعيداً عن حيثيات الجدل، فإن فكرتي القومية والوطنية جرى ربطهما بافكار سياسية وثقافية وحقوقية اخرى، فإذا كان روسو قد ربط الوطنية بالحرية، فإن هيردر ربطها بالاستقلال، لذلك اطلق دعوته لكتابة أدب قومي متحرر من الوصاية الأجنبية. وهكذا فعل فيختة في كتابه "خطابات للأمة الألمانية" اذ عبّر عن إيمانه بالروح الوطنية الالمانية، الامر الذي ترك أثرًا كبيرًا على الوعي القومي الألماني. بيد ان فيختة ذهب الى ابعد من السياسة عندما ربط القومية بالتعليم بنحو خاص، وطالب بأن يكون التعليم الزامياً، فلا تحرر بنظره من دون تعليم . كل تلك الكتابات القومية الاوروبية التي اقترنت فيها الوطنية بالحرية والاستقلال والتعليم حدثت في وقت متزامن وهو القرن الثامن عشر، وهو القرن الذي انتعش فيه الحراك السياسي والاجتماعي
 الاوروبي.  
    على الرغم من الالتباسات المصطلحية ما بين الوطنية والقومية في الفكر السياسي الغربي عموماً ، فقد وجدنا من حاول التفريق بين المصطلحين، فوجد ان الوطنية هي انتماء الى الارض وهي وسيلة لحمايتها ، والقومية انتماء الى العرق او الامة وهي وسيلة لحمايتها ايضاً، وأن الوطنية لا تعتبر هوية ثقافية، لأن الهوية مرتبطة بالقومية. ويعتبر البعض ان القومية تتضمن أوطاناً عدة، وأن 'الوطنية' جزءا من كل هو 'القومية. ويعترض الوطنيون ويقولون بأن الوطنية خيمة اوسع من القومية على اعتبار ان الوطن يمكن ان يضم قوميات عدة. وفي كل الاحوال فإن الوطنية على غرار القومية تكتسب بالتربية حيث تقوم البرامج الثقافية والتعليمية في البلاد بمهمة التنشئة الوطنية 
والقومية.
     وليس غريباً ان نجد في الساحة الفكرية العربية دعوات لفك الارتباط القومي والالتفات الى الضرورات الوطنية ، فهناك تنامٍ لقيام الدويلات الوطنية القطرية على حساب الهوية القومية والدعوة الى تحرير النفس من أعباء الالتزامات القومية. وفي خضم ذلك تبرز لنا الحقائق
 التالية:
  أولاً: لا توجد في العالم دول قومية بالمعنى العرقي للكلمة، بمعنى انتماء الامة الى السلالة الدموية نفسها ، لاستحالة قيام دولة العرق الواحد، ولكن توجد امم قومية بالمعنى الثقافي لمصطلح القومية .
  ثانياً : لقد حاول ادولف هتلر اعتبار المانيا جرمانية فحسب وعمل بمضمون المعتقدات النازية التي تقضي بتفوق العرق الجرماني الآري وبناء دولته على هذا الاساس، بيد ان المؤرخ الالماني فايت فالنتين أكد في كتابه "تاريخ الألمان" أن الألمان ليسوا آريين، فالآريون طبقا للحقائق العلمية هم الفرس والهنود. وأن الألمان ليسوا جرمانا ولا تتعدى نسبة العرق الجرماني 30 بالمائة
 منهم.
ثالثاً : لقد اعتدنا على الشكوى بأن العرب والاكراد وغيرهم حرموا من قيام دولتهم القومية، والحقيقة ان الترك والفرس أيضاً فشلوا في بناء دولتهم القومية. فالامة التركية لا تضم الترك فقط، وانما تضم المغول والاكراد والعرب والتركمان والاتراك من الاصول البلقانية والاذرية...الخ . أي ان "الامة القومية" لابناء طوران التي حلم القوميون الاتراك بقيامها بقيت حلماً ليس إلا.. والامة الايرانية لا تتشكل من الفرس فقط وانما من شعوب وعروق عدة من بينها الفرس والبلوش والتركمان والاكراد والعرب. والامة الفرنسية تشكلت من قوميات عدة مثل : الغاليين والرومان والبرتون والجرمن ومن العرب ايضاً، وتكونت الإمة البريطانية ( اي أقاليم: إنجلترا وأيرلندا الشمالية واسكتلندا وويلز) من الجماعات العرقية المختلفة مثل: الكلت والرومان والأنجلو ساكسون، نورس والنورمان والويلزية التي قيل بانها من أقدم الجماعات العرقية في المملكة المتحدة ، بالاضافة الى القوميات الجديدة مثل البريطانيين من اصول هندية وباكستانية وعربية. وهذا يعني ان دولة الامة ثقافية تضم مختلف الاقوام والثقافات.
     ولأن الدولة القومية في اوروبا دولة وطنية دستورية، فهي تساوي بين القوميات والثقافات وان تعددت وتنوعت. ذلك ما كان يسعى اليه المفهوم التنويري للرئيس عبد الناصر للقومية العربية حين قبل التعدد
 وعمل به.