كيف يقرأ الكاتب روايته؟

ثقافة 2021/10/23
...

  ابراهيم سبتي
 
عندما ينهي الروائي ما كتبه، يبدأ مرحلة أخرى في سلسلة مراحل الانتاج التي تجتمع كلها لإعلان الرواية عملا جاهزا للقراءة.
واحدى هذه المراحل هي مراجعة المكتوب مراجعة متأنية وقاسية ومعقدة، وبرأيي ستكون اصعب مرحلة في المنجز الروائي.
 إن القراءة المتأتية بعد الانتهاء من الكتابة، تتيح للكاتب المراجعة والترتيب والتصحيح، والأهم اكتشاف تسلسل الحكاية وبؤرة الصراع التي قد تفلت من البعض وتترهل وتتبعثر، فضلا عن خشية وقوعها في التكلف والتصنع، وهنا لا بد من الاشارة الى ان قارئ المخطوطة المكلف، عليه ان يتجرد من الشخصنة وان يفصل بين الكاتب وبين النص لتجنب الاحكام الجاهزة.
فالمراجعة هي كتابة أخرى للنص ومن ثم صناعة تختلف كليا عن المكتوب قبل مراجعته لأنه سيسير وفق آلية تحتم عليه التقيد بالتقنية وبنية السرد وتشخيص الخلل. 
إن الروائي المتفاعل مع كتاباته وفنه، يجد من الضرورة ان يراجع نصه أكثر من مرة، وكل مراجعة هي اكتشاف جديد وقد يحتاج لتحويل المسار ربما من ابعاده المرسومة الى أبعاد أخرى يجدها الكاتب أكثر ملاءمة ومناسبة لبث الافكار ورسم خارطة 
الرواية. 
وسيرى انها اكتسبت المقبولية التي يتوق اليها الكاتب قبل نشر عمله. 
أكثر الروائيين، يسمحون لزملاء آخرين، بالاطلاع على المخطوطة والتي قد تنبه الى كثير من الملاحظات التي تغيب عن ذهن الكاتب وربما تعيد رسم بعض الخطوط التي لم تكن في البال او غائبة عن التناول.
وربما يكون قارئ النص، قد أعطى بعض الملاحظات الجمالية ورفع النص الى مصاف النصوص الخارقة بفعل العلاقة الشخصية والمجاملة على حساب النوعية والابداع، فتؤدي من ثم الى انحراف الغاية التي تنتج عن هذا التقييم غير المدروس لا سيما أن كل منجز روائي جديد، هو أقوى ما كتبه الروائي في حياته حسب اعتقاده. 
شخصيا لاحظت بعض الزملاء لا يقتنع بقارئ واحد لنصه، انما يتعمد عرضه على  اكثر من واحد، الامر الذي سينتج عنه تعدد الآراء الشخصية المتباينة واختلاف الاساليب، ومن ثم التدخل في بناء الرواية وسبك الحكاية وحتى الافكار، فيضطر الكاتب ومن باب الركون الى هذه المدونات 
المتباينة، الى تنفيذ ما جاء فيها والامعان في التغيير مبتعدا عن القرار القوي الذي عليه ان يتخذه 
ان كان مقتنعا بجدية عمله، 
وتغيير ما يملى عليه فيرتحل عميقا في أغوار أفكاره فيشعر بالقلق والانزعاج ويطارده سؤال الابداع 
ويتمزق نصه بهدوء ويتلاشى ما بناه ببطء، وتغادره نشوة الإنجاز.
إن القراءات المتعددة للرواية خاصة قبل طبعها او نشرها، تجعلها عرضة للخفوت من بريقها الذي كانت عليه وترهلها احيانا بسبب تقاطع الآراء التي دوّنها الزملاء على كثرتهم.
ان القراءة الاولى والمهمة، هي قراءة الكاتب نفسه، لأنه الاقرب والاكثر معرفة بدقائق السرد المطروح في الصفحات وهو من يمتلك حق التغيير والاستبدال والاضافة والحذف طالما يعرف اماكن الحاجة لها.
وهنا لا نقول بعدم عرض المخطوطة على أحد الزملاء من باب سماع الرأي والمشورة، فهذا مطلوب للتنبيه والاستفادة من الأخطاء والتكرار والنسيان أحيانا.
ان الكاتب هو القارئ الأهم لعمله لأنه صانع النص وبمقدوره - البعض هنا وليس الاغلبية - الاكتفاء بما كتب ودفع مخطوطته للطبع لأنه مقتنع تماما وأدرى بما أنتج ولا يسمح بعرضها على من يقرأ له. 
اعتقد جازما بان على الكاتب ان يقرأ مخطوطته بإمعان وبنفس طويل وحرقة قلب وان يتابع شتات الافكار ربما لأنه هو من أطلق العنان لخياله، فيعيد لملمتها وبلورة انتاجها مرة أخرى مختلفة تماما. 
وقد يشعر بأن تعديلاته لا تتعدى المبلغ الجمالي الذي كان يهدف اليه ولن يطيح ببعض جدران البناء الذي جهد كثيرا لإتمامه.
وهنا تكون القراءة منتجة ومتجددة ولا تحيد عن المرسوم والمخطط الموضوع سلفا.
إنها القراءة التي ربما تنتج أفكارا أخرى او سردا مضافا تذهب بالرواية نحو الجمال أكثر لأنها تنبع من ذات مبدعة هي نفسها التي أنتجت النص ولا أحد آخر. 
والعجيب أن الرواية بعد طبعها، تُقرأ قراءة أخرى تماما وينظر اليها كاتبها بأنها صارت أكثر نضجا بعد سلسلة التغييرات التي أجراها هو او من أبدى رأيه، وهنا يطرح على نفسه سؤال الدهشة، هل أنا من كتبت هذه 
الرواية؟.