المنحى الغرائبي في «قيامة استفهام»

ثقافة 2021/10/25
...

  د. سمير الخليل
 
تضعنا مجموعة (قيامة استفهام) للشاعرة نجاة عبد الله، ازاء عوالم غرائبية على مستوى الثّيمات والصّور الشعرية والاستعارة وتناول الوقائع والأمكنة والإيحاءات من وجهة نظر تبتعد عن الواقع ليس بصيغة القطيعة الأبستمولوجية على حد تعبير (ميشيل فوكو) بل إنها تتخذ من الغرابة والتجسيد فوق الواقعي كمحاولة للإيغال في الواقع والتلصص على إحداثياته وتفكيك معطياته، فالواقع نفسه ينطوي على سيرياليّة وغرائبية وتناوله بشكل تقليدي لا يحقّق دينامية الكشف الحقيقي عن جوهره وإشكالياته وعدميتّه أحياناً. 
فغرائبية نصوص المجموعة تنتمي إلى الواقع وإن كانت تبتعد عنه شكلاً وتجسيداً، لكنّها تكشف عنه ببؤرة غير تقليدية وبهذا فإن الواقع يبقى المحرّض على أن نكتشفه بأكثر من طريقة حتّى عن طريق الغرابة والاستفزاز وابتكار صور محلقة فلا منطقية ما يحدث تبعث على تناول يتماهى مع هذا التوجّه. 
وإذا كان العنوان هو الإضاءة للامتداد الأفقي والعمودي للأثر الفني فإن عنوان المجموعة ينطوي على استفهام غرائبي يتشظى ويتحوّل إلى نسق تتأطر به نصوص المجموعة التي تتمركز حول بنية استفهامية – ومتوالية – من الأسئلة والانتباهات وكسر أفق التوقّع في بنية النص على حد تعبير (هانز ياوس)، فلا تنتظر سياقاً منطقياً في العلائقية اللغويّة ولا سببيّة في البناء المنطقي للصوّر الشعريّة إنّه استثمار للامنطقي لتوكيد ما هو منطقي وتوظيف اللاّواقعي لتجسيد الواقعي، وفي كل نص شعري نجد هذا التناسق الجدلي بين البداية المنطقيّة ثمّ القفز إلى مناطق الغرابة والتحليق بالصورة والبحث عن علائق وبُنى تمزج بين تراسل الحواس إذ يختلط فيها المرئي والمسموع والمحسوس والمدرك حتّى أنّ بعض النصوص تتحوّل إلى استلهام ذهني وإحالات بصرية تثير وعياً في إدراك مستوى عالٍ من العلاقة بين الأشياء وبين صورها المفترضة، وبما يعكس اشتغالاً مركّباً يضفي على الفكرة أبعاداً إضافيّة ومتعة في التصوّر والتحريض على رؤية الأشياء والموجودات والصور وفق رؤية مختلفة وبما ينتج والصّور وفق رؤية مختلفة، وبما ينتج تشابكاً في تعدّد المعاني والمضامين. 
في نص (دعاية) نجد مثل هذا الاشتغال في التناول اللا عادي لما هو عادي أو اللا مألوف لما هو مألوف (ص18). 
مثلما تنمو المعطيات داخل النص وفق النسق الغرائبي وعجائبيته، البنية العلائقية بين الموجودات، وترحيل المعنى المتوقّع إلى ما هو غير متوقع، هذه الترابطية تفرض قراءة وتعاطياً استثنائياً للبحث عن ذهنية العلاقة والابتعاد عن الأشياء وتصبح الرؤية الشعريّة تشتغل وتتناسل في مساحة (العلاقات) أكثر من تركيزها على سكونيّة (الموجودات)، فالأشياء لا تمتلك وجوداً إلّا حين تتحوّل إلى شيء أو صورة هي نتاج تفاعلها مع شيء آخر. والسؤال هل لجأت الشاعرة وفق وعي تلقائي إلى البنيوية وفلسفتها لصياغة رؤية شعريّة لتفكيك الواقع وتتبع بنية وعلائقية لتأسيس رؤية تنفذ إلى الجوهر ولا تكتفي بالتصوير أو التناول الظاهري، فالمظهر العادي وتجسيده لا يحرّك ساكناً ولا يبعث على التأمل والتحليق والاستفزاز الصوري وحده الذي يثير حاسة التوّجس والبحث والتعاطي أو القراءة المغايرة. 
ولعلّ هذه التجربة التي تنطوي على إثارة وتجريب تتيح للشعر أن تتوالد فيه صور اللا توقع والتقاط مجسات وعوالم تبعث على الدهشة وتثير الذهن لتولّد بعد ذلك التساؤلات ومحاولة الربط بين العلائق والأفكار للخروج برؤية تفلسف النظرة وتغامر في استثمار البنى اللغويّة بوصفها معادلاً جماليّاً للواقع حتّى وإن كان الواقع يفتقر إلى الجمال الحقيقي، في نص (أسود – أبيض)، (ص22). 
في هذا النص الغرائبي استثمرت الشاعرة نجاة عبد الله ثنائية (السواد والبياض) لتكشف عن علائق جديدة وعوالم ترحيلية خارج سياق منطق الأشياء لتصبح هذه الثنائية تشتغل بدلالاتها الترميزية والإيحائية إلى أفكار وعوالم أخرى خارج (منطق) علاقاتها التقليدية لتوليد صور فوق الواقعية أو ما بعدها ولكنّها تتعمق وتتمثل وتنطلق من غرائبية (الواقع) الذي لا يمكن التعبير عنه إلّا بما يتماهى مع الـ (غرائبيّة) غير الظاهرة أحياناً بسبب عاديّة وسائديّة وسكونيّة النظرة إليه، وهذا هو سرّ القصائد التي تحاكي لا منطقية الواقع أصلاً لتتحوّل إلى شفرات تنطوي على اختزال عميق فأيّ استطالة أو استطراد يفسد هذه التركيبة، ونجد هذا الميل الشديد إلى نصّ (الومضة) وبنيته (الهايكو) الدّالة.
ولنلاحظ الاختزال المقترن بجماليّة وتحليق الصورة الشعرية في نص (أعشاش البنفسج)، (ص28). في هذا النص نجد فاعلية التأثر والتأثير وايجاد بُنى علائقية جديدة بين الأشياء والموجودات مع نزوع واضح لأنسنة الأشياء والأمكنة. 
وترحيل المعنى إلى مسافة أبعد من المتوقع (إنكسر القلب بخطأ المرمى) نلحظ فيه المسافة الإشاريّة – الترحيلية على مستوى المعنى بين مفردتي (القلب – والمرمى) ولا يمكن تحصّل المعنى إلّا باجتياز المسافة الضمنية بوجود (إشارة) للربط وتوليد الفكرة والصورة وهي مفردة (الخطأ) فالقلب مرمى كما أن المرمى قلب من حيث التشبيه (الغرائبي) وما يجمع بينهما حدوث (الخطأ) والاختزال في الصور الشعرية يمتد إلى اختزال في عناوين النصوص، فمعظم النصوص يكتفي بكلمة مفردة (دالة) وتبتعد عن الوصف لنلاحظ هذه العناوين (دعابة) (دقائق) (دمعة) (طيران) (مصادقة) (حصار) (حب) (تمثال) (عطب) (فضائح) (حضور) (نزهة) (تعاويذ) (شتاء) (لعبة) (جواب) (صوت) (أسرار) (عطر) (حزن)... الخ. 
وليس من المستغرب أن نجد فضاءات النصوص مكتظة بعبء السنوات التسعينية، وما رافقها من أوضاع وانكسارات بسبب الواقع السياسي والسيوسولوجي والسايكولوجي وكان الواقع بحق ينطوي على (سيريالية) باطنية في ظل الوجع والنكوص وغياب النسق الإنساني والجمالي في الحياة اليومية وهذه الضغوط والإنكسارات انعكست بطبيعة الحال على كل أشكال الإبداع، وكان من البداهة أن يكون الشعر بوصفه الفن الأكثر حساسية واقترابا – من الأشكال التعبيرية التي تأثرت وتفاعلت وعبرّت عن هذا الواقع المنكسر – الحصاري الجائر – ونجد في هذه النصوص حضوراً للموجودات والأشياء أكثر من حضور الإنسان وكأنه قد انسحب على مستوى الترميز من فضاء الرؤية. 
في نص (حصار) نجد مثل هذه الارهاصات: 
قطفت الياسمين/ علقته على النافذة  
فصارت الحرب/ وصار الحصار.. (ص34). 
والصورة الترميزية تفصح عن غياب (الياسمين) وهو إعلان ضمني وصوري لتلاشي الحياة وحضور الوجع بمجيء وهيمنة (الحرب) و (الحصار).. كلمات اختزالية عبرت عن فكرة متّسعة المعنى والنص يتمركز حول بنية (إشارية – صوريّة). 
واستكمالاً لفكرة أن النصوص غالباً ما تحاكي وتصوّر وتجسّد واقع الموجودات وأنسنة الأمكنة وما هو ساكن فنجد نماذج من نصوص متفرقة. 
نجد أشكال التعبير تلتقط مفردات قد تبدو بلاد الرافدين حياة أي الأشكال الجامدة (الجدران/ الأعمدة، الصور المظلات/ التماثيل/ النافذة)، الأسلاك، الأقفاص لتوليد الدلالة إذ يتصحر الواقع وتحولاته التي لا تنبئ عن انفراج إلّا بترحيل المعنى والبحث عن صور محلّقة تعيد نماء وتناغم مفردات الواقع: 
وبخمسة أصابع/ أضعنا تاج الروح
على الأقفاص المهجورة/ فكانت الأحلام فراشات (ص44). 
قصائد نجاة عبد الله شفرات غرائبية يسكنها الواقع مكتظة بالوجع والأسئلة والبوح العميق.. إنّه اغتراب للبحث عن الإنسان والحلم والاشراق وإن جاء بصيغة صور محلقة وغريبة تكمل السؤال المنتج للرؤى الشعريّة.