العولمة.. والتوائم المتماثلة

ثقافة 2021/10/25
...

 د. نصيرجابر        
 
كان من المفترض أن تسهم العولمة - بوصفها منظومة مفاهيم حداثية تسعى للتغيير والتبديل ذات طبيعة عالمية أممية - في انتعاش النظرية النسوية وتدعيمها وترسيخها ونشرها.. أقول كان من المفترض ذلك...!!  ففي مباني كليهما مشتركات وتلاؤم وتناغم على الرغم من ابتعادهما في المنطلقات والجذور. 
فالعولمة في أشكالها كافة: الاقتصادية والسياسية والثقافية والتكنولوجية تسعى - ضمن ما تسعى إليه - إلى تذويب الهويات الفاصلة بين الشعوب، ومن ثمّ جعل العالم كله (قرية كونيّة صغيرة) والهدف الرئيس من وراء ذلك طبعا اقتصادي محض مهما حاول منظروها تجميل وتأطير هذا الهدف بمقاصد أخرى ومسوغات كثيرة، ولكن يبقى الاقتصاد هو المحور الأول والأخير الذي تدور حوله هذه
 (العولمة). 
فمنه تبدأ الأفكار ومن نتائجه ومخرجاته تتفتّق الرؤى الجديدة حاملة بعض ملامحه دائما والحقيقة التي لا شك ولا ريب فيها هي أن الاقتصاد هو عصب الحياة والمحرّك الأول لكل نشاط بشري على وجه الأرض ولأسباب كثيرة -لا مجال للخوض فيها-  صار لزاما على من يتحكم برؤوس الأموال ويشكّلُ هويّة الاقتصاد أن ينفتح على العالم كلّه، هذا العالم المقسّم من وجهة نظر استعلائية على عوالم هي: العالم الأول والثاني والثالث بل والعالم الرابع كما يرى بعضهم.
 والمهيمن بعضه على بعض سياسيّا وثقافيّا واقتصاديّا سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، هذا العالم هو حيز اشتغال النظرية النسوية، ومن ثمّ هو حيز المرأة التي تسعى إلى المطالبة بحقوقها في المساواة والحرية وحق العمل والتعلم ومن ثمّ التمكين، وقد أسهمت التقنية ووسائل التواصل الحديثة- التي هي مادة  العولمة وأساسها- في نشر هذه المفاهيم وتوثيق انتهاكاتها في العالم أجمع، ولكن من يتأمل العالم الراهن المعولم الآن ويبحث فيه عن المرأة سيجدها قد فقدت الكثير.
 فقد كان من أهم مظاهرها السلبية -أي العولمة- على الاقتصاد نشر البطالة وجعل الشعوب الفقيرة في الدول النامية مستهلكة فقط، فالتنافس محسوم مسبقا لكل منتج جديد وارد لأنه بكل بساطة لا ينافس المحلي، هذا إن كان هناك منتج محلي أصلا، ومع هذه البطالة فقدت النساء الوظائف والأمان وصرنّ عرضة للفقر والتشرّد والضياع أو مرغمات على ممارسة أعمال لا إنسانية من أجل لقمة الخبز فقط. 
ومن الطبيعي أن تلك الدورة التي تبدأ بالبطالة تنتهي في كثير من الأحيان بالإدمان والطلاق والعنف الأسري والتعنيف وغيرها من متلازمات الفقر والاستلاب، ومع العولمة أيضا فقدت المرأة هويتها المحلية التي تميزها ككائن له خصوصيته ومخياله الجمعي الفريد والخاص.. هذه الهويّة التي تدفعها نحو التمكين الفكري والاجتماعي والإنساني. فصارت تختلط عليها النماذج المنمّطة الواردة من قنوات الإشهار المعلن وغير المعلن، ومن ثمّ صارت الهشاشة الفكرية ميزة واضحة للشخصية النسوية في كثير من المجتمعات النامية لتكون هشاشة متساوقة مع هشاشة الاقتصاد المتخلخل
 والقلق.  
كما أسهمت  العولمة بنمو الشعور بالتبعية وتضخيم عقد النقص اتجاه نماذج الدول التي تحكمها فكريّا واقتصاديا؛ لذا يمكننا القول إن العولمة قد نزعت من المرأة واحدة من أهم شروط تمكنها وهو شعورها بذاتها المتميزة الواثقة التي  تجعلها تخطو دائما نحو النجاح والاستقرار، ومن ثمّ تخطي أي عقبة تواجهها، وهنا لا بدّ أن نقول إن الكثير من نسويات العالم الثالث قد فهمن اللعبة مبكرا فحاولن الاشتغال على الشخصية المحلية بوصفها الأنموذج الذي يجب الانطلاق منه دائما بمميزاته الفريدة التي تجعل من الاختلاف هو الأصل في كلّ خطوة نجاح؛ لأنّ التشابه والتكرار حالة يرفضها المزاج الإنساني السليم؛ لذا دائما تسعى التوائم المتماثلة إلى التفريق بين بعضهم بألوان الملابس لخلق حالة من الاختلاف المنظور على الأقل ريثما يظهر التميز والاختلاف غير
المنظور.