فظاعة الاستعباد والعبوديَّة

ثقافة 2021/10/25
...

 د. فخري العباسي
 
«بوابة سفر من دون رجوع» (La port du voyage sans retour)، ذلك هو العنوان الذي مهر به الأديب الفرنسي ذي الأصل الأفريقي السنغالي دافيد ديوب (David Diop) روايته الأخيرة التي صدرت في باريس عن دار لو سيول (Le Seuil) الفرنسية. 
استلهم دافيد ديوب الحائز جائزة كونغور لطلاب الدراسة الثانوية سنة 2018، والجائزة الدولية مان بوكر لسنة 2021  والذي يطمح للحصول على جائزة كونغور لهذه السنة، استلهم عنوان روايته من اسم جزيرة كوريه التي تقع في المحيط الأطلسي على مسافة ليست ببعيدة عن خليج داكار، وهي الجزيرة التي كان ملايين العبيد الأفارقة ينقلون إليها بالقوة لتهجيرهم في ما بعد إلى أوروبا وأميركا ليعملوا هناك عبيدا مستعبدين في الحقول وفي بيوت المواطنين الأغنياء من دون أي أمل في العودة إلى بلادهم عندما كانت أوروبا تمارس تجارة العبيد بحملات استعباد استعملت خلالها أفظع أنواع الممارسات تجاه الأفارقة الذين لم يمثلوا في تلك الفترة التاريخية إلا أناسا من الدرجة الثانية لا يتردد تجار العبيد من شرائهم من رؤساء بعض القبائل الأفريقية المتعاونة معهم ثم تكبيلهم بسلاسل من الحديد ونقلهم إلى هذه الجزيرة النائية بعيدين عن أسرهم وبلدهم لكي يخدموا أسيادهم البيض.
إذا كان دافيد ديوب قد عرض في روايته الأولى التي أطلق عليها اسما رمزيا هو شقيق الروح (Frère d’Ame) مشاهد الحرب المؤلمة التي خاضها الجنود السنغاليون في أوروبا وخاصة في فرنسا، خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية حيث كانت آلة الحرب تطحنهم بقسوة عندما كانوا يوضعون في الصفوف الأولى من القوات المهاجمة في سفرة عنيفة من دون عودة، سفرة تنتهي بهم إلى فقد حياتهم في خنادق الحرب الطويلة في سبيل أهداف لا يؤمنون بها ولا يعرفون حتى لماذ يحاربون فيها، فإنه ينقلنا في روايته الأخيرة هذه إلى القرن الثامن عشر وبالتحديد إلى سنة 1750 حيث كانت تجارة العبيد تمثل عملية مرعبة مليئة بالحكايات القاسية، وهي هذه الحكايات التي تطرز صفحات روايته الجديدة التي يأمل الحصول بها على جائزة كونغور الفرنسية المشهورة. 
وهي وإن كانت تعرض في العديد من صفحاتها مشاهد الاستعباد المؤلمة، فإنها تتحدث خاصة عن عالم نباتات يدعى ميشيل أدانسون الذي كان قد سافر إلى السنغال لدراسة النباتات في هذا البلد الذي اشتهر باحتوائه على مختلف أنواع النباتات النادرة الغريبة التي تنمو في أدغاله المنيعة، فإنه يعرض أيضا لقاء هذا العالم بالفتاة الافريقية مرام التي أرادت الهروب من العبودية نظرا لتعرضها إلى الخطف والاعتداء الجنسي عليها من قبل عمها الذي لم يتردد من بيعها كعبدة لاحول لها ولا قوة مقابل الحصول على بندقية ليس إلا. 
مع هذه الفتاة ومن خلال مغامرة هروبها للتخلص من الاستعباد، يعرض علينا دافيد ديوب صورا مستوحاة من الحقيقة ولكن أيضا من الخيال في الوقت نفسه عن هذه الفتاة ومقاومتها للعبودية وهربها المحفوف بالمخاطر وسط أدغال السنغال القاسية. ولكنه يتحدث أيضا عن العلاقة المستحيلة التي نشأت بعد أن يتعرف عالم النباتات بهذه الفتاة المتمردة التي يقع في عشقها بالرغم من إرادته، فهو لم يأتِ إلى السنغال إلا لكي يسبر أغوار النباتات ليس إلا، ولكنه يلتقي بالصدفة بهذه الفتاة الجميلة التي جذب سواد بشرتها الساحر أحاسيسه ولم يتمكن من التخلص من رغبته في البقاء معها رغم سواد بشرتها ويقع رغما عنه في غرام هذه الفتاة التي تعيش مختفية في قرية نائية وتعمل سرا في معالجة الأعشاب. وهو وإن كان قد أدرك باستحالة هذا الحب، فإنه يوجه لنفسه السؤال الرمزي المؤلم في تلك الفترة التاريخية: «كيف لي أن أتزوج من فتاة زنجية وهل يغفر لي العالم إن كنت قد تزوجت منها؟». 
كما أن الفتاة الزنجية تدرك هي أيضا استحالة العيش مع رجل أبيض لم يأتِ إلى بلدها إلا لدراسة النباتات. هنا تبدأ المعاناة التي قد تمثل هي الأخرى سفرا من دون عودة. فهي إن تزوجت الرجل الأبيض، فإنها لا بد وأن تترك أرضها لتعيش معه زنجية أو ربما زوجة عبدة ومستعبدة في بلد هو ليس بلدها. وهو إن بقي في بلدها، فإن ذلك لا بد وأن يشكل سفرا من دون عودة له هو الآخر تجعله يرفض حياته وأبحاثه وكل ما يربطه ببلده.
إذا كانت العلاقة التي يعرضها دافيد ديوب بين الفتاة الزنجية مرام وعالم النباتات ميشيل أدانسون هي علاقة حب قد تبدو للقارئ مستحيلة، فإنها تعكس حالة لم تكن مألوفة في تلك الفترة الزمنية وهي حالة تتجاوز حدود المستحيل عندما تؤكد على إمكانية ارتباط رجل أبيض بفتاة سوداء أو العكس. 
لا يعرض دافيد ديوب صورة مشرقة لهذه العلاقة المخلصة فقط وإنما يعرض أيضا من بين المشاهد الإنسانية المختلفة، حالة مثالية أخرى في روايته، تتمثل في الصداقة التي تنمو بين ميشيل أدانسون ودليله ومرافقه الزنجي ناداك الذي يرافقه في تجواله عبر الأدغال السنغالية والذي يتحول من مجرد مرافق زنجي بل وخادم يحمل أغراضه على ظهره إلى صديق مقرب إليه يشعر بالتعاطف معه ويقاسمه الطعام ويتناقش معه ويساعده على تعلم اللغة المحلية وجمع النباتات النادرة لدراستها ويعامله معاملة أخوية قد تفوق في متانتها علاقات الأخوة الفعلية.  
وسواء تعلق الأمر في علاقة الحب القائمة بين ميشيل أدانسون أو علاقة الصداقة الأخوية بينه وبين دليله الزنجي ناداك، فإن دمج هاتين العلاقتين في إطارها الزمني الذي لا يمكن تصور حدوث مثل هاتين العلاقتين فيه، لا بد أن يشكل أيضا نوعا من التمرد الإنساني المتمثل في تجاوز حدود القيم العنصرية المفروضة آنذاك على المجتمع الأوروبي، ذلك التمرد الذي كان قد بدأ في الظهور لدى الكثير من الاوروبيين وخاصة لدى المثقفين الفرنسيين منهم ضد العقلية السائدة التي جعلت من البيض أسيادا بينما جعلت من السود عبيدا لا يستحقون إلا الاستعباد. ربما يكون ذلك هو الهدف الرمزي لنشر هذه الرواية اليوم والتي تتيح لمؤلفها دافيد ديوب وللقارئ ومن خلالها، فتح بوابة جديدة من العلاقات الإنسانية تسمح لجميع سكان الأرض بالمرور عبرها، قد تتمثل وببساطة ببوابة لا تعرف المستحيل في عالم العلاقات عندما تكون مبنية على الاحترام
المتبادل.