أوكتافيو باث.. متاهة الوحدة واللهجة الشعبيَّة

فلكلور 2021/10/28
...

  ريسان الخزعلي
 
أوكتافيو باث، شاعر مكسيكي معروف عالمياً، وكثيراً ما يوصف بأنه (عقل المكسيك الأكثر توقداً)..، كما أنه ناقد ومفكر في الوقت ذاته، وقد نال جائزة نوبل للآداب في واحدة من دوراتها. واضافة الى هذه المكانة الإبداعية، كانت له مكانة في العمل الدبلوماسي..
للشاعر مواقف نضالية وثورية ضد احتلال بلاده، وقد شارك في الألوية الدولية في الحرب الاهلية الاسبانية عام 1936 والتي انتهت بتفوق اليمين عسكرياً، وإثر ذلك هاجر الى باريس وتعرّف الى اندريه بريتون ليحيا مثقفاً سريالياً بعد أنْ تأثر بحركته السريالية ذائعة الصيت، إلا أنه ظلَّ مسكوناً بالوحدة يشهر نقده حاداً صارماً حرّاً في وجه كل ما بدا له زيفاً ونفاقاً بما في ذلك عمليات القمع التي تعرّض لها الطلاب في موجتهم العارمة التي اجتاحت العالم عام 1968 واحتجاجاً على المجزرة التي ارتُكبت في مدينة مكسيكو بحقهم..
كتب اوكتافيو باث كل ما يمليه عليه شرطه الشعري والفكري، بل شرطه الإنساني، وهو يفعل ذلك بحس وطني عالمي رائع لا يعرف الحدود ولا الجغرافيا والانتماءات على الرغم من أنه كان ينطلق دوماً من مكسيكيته. أمّا الوحدة والصمت فهما صنوا منجزه ورفيقا شوطه.
ما تقدّمَ من فقرات، وبتصرف محدود، هو ما جاء في مقدمة كتاب (متاهة الوحدة) لأوكتافيو باث، ترجمة الاستاذة نرمين ابراهيم عاجل . ومما يُلفت الانتباه، إشاراته الواضحة عن اللهجة الشعبية ودورها التعبيري لحظة التأمل في الانسان والتاريخ والدين والحُب والاسطورة. ففي الفصل الثاني من الكتاب (أقنعة مكسيكيَّة) والذي يستهلهُ بأغنية شعبية: أيها القلب الملتاع.. اخفِ اشجانك.
يقول: تُجسد لنا اللهجة الشعبية الى أي مدىً ندافع عن أنفسنا إزاء الخارج. وبذلك يمنح اللهجة الشعبية دوراً في المقاومة والتأصيل الاجتماعي الذي يمنح الخصوصية وبعضاً من الهويّة.
الشاعر مسكون بالوحدة ومتاهة الوحدة بدوافع لا تتعلق بما هو سايكولوجي أو مَرَضي، وإنما بفكرة الوحدة فلسفياً وفكرياً. وعن الوحدة وضروراتها يقول: كلما كبرنا استحال إحساسنا الفطري هذا شعوراً بالوحدة ومن ثم وعياً بأننا محكومون بالعيش مستوحدين، غير أنَّ تجاوزنا وحدتنا وإعادتنا الصلات التي كانت تربطنا ذات ماضٍ فردوسي بالحياة لن يلغيا شعورنا بأننا مستوحدون. إنَّ الوحدة شرط حياتنا نفسه، تبتدئ اختياراً وتطهيراً لنا، وبانتهائها يتلاشى ما نشعر به من برمٍ وحيرة لأنَّ ما ينتظرنا عقب الخروج من متاهة الوحدة هو الكمال واللقاء، استقراراً وسعادةً وانسجاماً مع العالم. ثم يُضفي خلاصته عن اللهجة الشعبية قائلاً: جسّدت لنا اللهجة الشعبيَّة هذا الازدواج حينما جعلت من الحزن صنواً للوحدة ،إذ إنَّ لوعة الحُب هي لوعة الوحدة، وإنَّ الولادة والموت هما تجربتان في الوحدة.
إنَّ شاعراً ومفكراً وناقداً كبيراً، حينما يمنح اللهجة الشعبيَّة هذا الدور في الفعل الثقافي الأدبي، وهذه الفاعلية في التجسيد، يجعلنا نتلمس من جديد الطاقة الكامنة في لهجتنا الشعبيَّة كي ندافع عن أنفسنا إزاء الخارج كما فعل اوكتافيو باث.