التأمل الروائي

ثقافة 2021/10/28
...

لؤي حمزة عباس

تسحرنا الرواية، لا بما تسرده من وقائع وأحداث وما تستدعيه من شخصيات وأفكار، بل بما تتضمنه من مقاطع تأملية تصل تخوم الفلسفة والشعر في النظر إلى جوهر التجارب الإنسانية التي تعمل على تمثلها وإعادة إنتاجها، إنها تحقق عبر إضاءاتها صلة أعمق مع قارئها ليطل على الدواخل الإنسانية وينصت إلى مجرى الزمان وهو يكشف صوت الأنهار الخفية في أعماقه، شأنها شأن كلِّ فن عظيم ينشغل بالخفي البعيد متجاوزاً ضجيج اليومي والعادي سريع التغير والزوال، ذلك ما يحدّثنا بمثله الكاتب النمساوي بيتر هاندكه في حواره مع جمانة حداد المنشور في كتاب (صحبة لصوص النار)، وهو يشير لضرورة أن تضم الرواية كثيراً من “المقاطع التي لا يحدث فيها شيء”، إنه اللاشيء الضروري الذي يضيء التجربة الخاصة في كلِّ رواية، مهما اختلف موضوعها وتباينت تقنياتها، “كل رواية جيدة يجب أن تتضمن عدداً من المقاطع التي لا يحدث فيها شيء، ولكن ينبغي لهذا اللاشيء أن يبث طاقة تمرّ من الكلمات إلى القارئ: أكرّر، كأنها تجربة صوفية، مهم جداً هذا الفراغ، أعني الفراغ المشحون بالطاقة”. إن المقاطع التي يتحدث هاندكه عنها، وقد امتلأت بـ (اللاشيء)، تتضمن الكثير وهي تغادر وقائع الرواية على نحو مؤقت وتنفصل عن مجراها الزمني لتحقق نزولها العميق (أو صعودها) في طبقات الفكر التي تشدّ عناصر العمل الروائي وتنظم حركته. إن من الغريب أن نقرأ أعمالاً روائية ليست بالقصيرة يستغرق كتابها برسم عوالمها وإدارة أحداثها بغير أن يمنحوا رواياتهم لحظات تأمل في مقاطع مبثوثة في النسيج الروائي، تحقق الرواية عبرها مهمتها الأبعد في النظر إلى صلة ما تروي بالمعنى الكلي للحياة،، على الرغم من أن الحدث سريعاً ما ينسى والشخصية يجرفها سيل الشخصيات وتختفي من أمام أنظارنا، لكن مقاطع التأمل تحافظ على قدرتها على الإشعاع بعد انتهائنا من قراءة الرواية ومغادرة عالمها، ولنا في الروايات العظيمة التي قرأناها خير الأمثلة، فتأملات دستويفسكي وتولستوي وهرمان هيسه وكازنتزاكي وتوماس مان وسواهم حاضرة في أذهاننا، تحدّثنا عن المصير الإنساني بالكثير من التعاطف والألفة، إن (التجربة الصوفية) التي يحدّثنا عنها بيتر هاندكة تؤكد قيمتها في بلورة عالم الرواية الذي يظل أبداً بحاجة لما يقربه من دواخل الانسان ويُغنيه بالمعارف الروحية وهي تنظر كلَّ مرّةِ إلى جانب بعيد من جوانب التجربة الإنسانية المتجدّدة مثل نهر لا يكف عن
الجريان.